بلفورات..!
بإعلانه الموجز في العام 1917، وضع آرثر بلفور أساساً لتغيير أقدار الفلسطينيين، والعرب. لكن أي صك أو وعد يكسب قيمة عملية فقط حين يتحقق نصه في العالم. وقد تحقق وعد بلفور فعلاً في صورة الكيان الصهيوني القائم في فلسطين المحتلة حتى اليوم. وكان الذي حوَّل ذلك الوعد من مجرد نص إلى واقع، هو امتلاك بريطانيا في ذلك الوقت الأدوات والقوة لتجسيده.
كان وعد بلفور مسوَّغاً بالنسبة للحكومة البريطانية على أساس خدمته مصالحها في ذلك الوقت، فأتاحت تحقيقه. لكن كل الظروف ومعادلات القوة العالمية تغيرت جذرياً وجوهرياً خلال القرن الذي مضى منذ ذلك الإعلان، بما في ذلك ذهاب القوة البريطانية نفسها. ومع ذلك، ثمة ثابت واحد استمر طوال هذه الفترة: استمرار المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين، بمساعدة مجموعة فريدة من العوامل والتفاعلات التي عملت كلها لإدامته.
لم تكن قوّة إعلان بلفور متأصلة فيه. فهو عرض مكثف للعيوب الأخلاقية والقانونية والمصادرات المنطقية التي لخصوها بعبارة "وعدُ من لا يملك لمن لا يستحق". كانت قوته فقط –وما تزال- هي غياب أي قوة تنقضه وتلغي نتائجه. ولذلك، يمكن أن يكون ما واجهه الفلسطينيون على مدى قرن بدأ بظلم بلفور، لكنه استمر بعمل عشرات الـ"بلفورات" –الحقيقيين والمجازيين- الذين ضمنوا لكلمات آرثر بلفور الخرقاء استمرار هذا التحقق "المُعجز" كما يصفه الصهاينة أنفسهم، ومنعوا ذهابها إلى مزبلة التاريخ مثل ترليونات الوعودة المنقوضة.
مشكلة الملايين من الفلسطينيين وأجيالهم هي أن شيئاً لم يتم عمله مطلقاً لتغيير ما ترتب على وعد بلفور من ظلم. وقد وصف بلفور، بداية، ما تبلغ نسبتهم 90 في المائة من سكان فلسطين الأصليين بأنهم "المجتمعات غير اليهودية"، في استصغار واضح لشأنهم. وبعد تسهيل الانتداب البريطاني الهجرة اليهودية إلى فلسطين، أكملت الأمم المتحدة هذا الازدراء حين منحت 57.7 % من فلسطين لـ33 % من اليهود الغرباء الذين ليسوا فلسطينيين.
بعد ذلك، رعت الولايات المتحدة حماية نتيجة بلفور المتمثلة في دولة احتلال مع استمرار تشريد الفلسطينيين. وإلى جانبها لم يفعل "المجتمع الدولي" الرسمي أي شيء لتنفيذ قرارات الأمم المتحدة التي أنصفت الفلسطينيين بعض الشيء نظرياً. وفي الصورة الأعم، تواطأت القوى العظمى العالمية، والهيئات الدولية التابعة، والنظام العربي الرسمي، وحتى الفلسطينيون أنفسهم ببعض الطرق، في إدامة صلاحية وعد بلفور بعد أن شبع بلفور موتاً وذهبت قوة إمبراطوريته.
بالنسبة للعرب، لم تكن لهم القوة –أو الإرادة- للحيلولة دون تحقق وعد بلفور في المقام الأول، ثم لإلغاء نتائجه طوال عقود مضت منذ نكبة الفلسطينيين ونشوء دولة الكيان. وهم يمتلكون -على المستوى النظري- العدد والعدة والمال وحافز المصلحة لانتزاع أيّ "وعود" أخرى تنقض صلاحية بلفور، ومتابعة تحقيقها.
والفلسطينيون أيضاً، فشلوا –لأسباب ذاتية وموضوعية- من تأسيس مشروع تحرري ذكي وحيوي يمكن أن يعارض المشروع الاستعماري الصهيوني. وقد تخلوا –أو أجبروا على التخلي- عن أي وسائل نضالية مؤثرة التي ربما تجلب لهم مكاسب وطنية، وتنقض شيئاً من بلفور وتداعياته. وبالإضافة إلى الفصائلية المدمرة وتناقض الرواية النضالية بطريقة انتحارية، تنازل الفلسطينيون عن سردهم التاريخي، في مقابل عدو متشبث بسرده الأسطوري التوراتي. وأخيراً، انتهى بهم الأمر إلى فقدان كل قوة، ومعها كل حق. ويلخص الصحفي البريطاني روبرت فيسك، بشكل مؤلم واقع الحال: "والآن، يهدد أحفاد هؤلاء الضحايا، الفلسطينيون العرب، بمقاضاة بريطانيا على إصدار هذه الورقة الخبيثة، في رد يائس وصبياني على التاريخ".
الشجب والتوسل وطلب الاعتذارات هي حتماً ردود يائسة وصبيانية. ولطالما كان التاريخ واضحاً في عرض الحقيقة العالمية الوحيدة: الحق هو القوة. بالقوة فرض بلفور رؤيته، وبالقوة يصادَر الضمير الدولي، وبالقوة توجد صنيعة بلفور الوحشية في فلسطين. وفي غياب قوة الرد وحماية الحق، كتب مئات البلفورات وعودهم السوداء التي أدامت النكبة الفلسطينية.
الغد 2017-11-02