أغرب صراع في التاريخ المعاصر
الفعاليات الخاصة بإحياء مئوية وعد بلفور "المشؤوم" بدأت مبكرا وهي سوف تستمر في الفترة القادمة من جانب طرفي الصراع ومؤيديهما في مختلف عواصم العالم، وحيث يوجد فلسطينيون ويهود وأيضا عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي.
مئوية بلفور تحرّك شجونا وتأملات فيما أصبح يطلق عليه أطول صراع في التاريخ المعاصر ويمكن أن نقول أيضا أغرب صراع. ففي الأرقام شهد القرن الفائت صراعات كثيرة أكبر حجما وأفدح ثمنا من حيث الخسائر في الأرواح لكنها جميعا كانت تنتهي بطريقة أو أخرى لتستقر وتصبح من الماضي إلا الصراع الذي بدأ بالوعد المشؤوم لفكرة ما كان يمكن تخيّل حدوثها في عصرنا الحديث. ففي حقب غابرة كانت تحدث أحيانا انزياحات لشعوب تحل مكان أخرى عبر الحروب، لكن أن يتم في هذا الزمن تجميع شتات من الناس وعمل دولة لهم على أرض وطن شعب آخر فهذه جريمة مذهلة لا يقبلها العقل المعاصر وهي قد سوغت بعمليات تمويه هائلة لا تتوفر إلا للوسط الصهيوني العالمي، والأدهى أن تستمر هذه العملية حتى الساعة وسط ضباب من الكذب والتزوير يغلف حقيقة ما يجري تحت الاحتلال من ضم وتهويد للأراضي وزرع المستوطنات وتضييق على المواطنين الفلسطينيين.
هذا ما يفسر في الجوهر استمرار الصراع؛ فالغاصب الذي أقام دولته على الجزء الأكبر من الوطن التاريخي للفلسطينيين لا يقبل بتسوية بل يستمر بالتنكر لحقوق آخر شعب في العالم تحت الاحتلال ويرفض اليمين الاسرائيلي الحاكم الآن علنا ورسميا حل الدولتين.
في القضية الفلسطينية الحق أبلج كنور الصباح. وما تزال القوة تغلب الحق لكن الحق قوة أيضا وهذا معنى استمرار النزاع بلا نهاية، ولا نهاية للنزاع دون تسوية للحقوق الفلسطينية والعالم يعرف ذلك، وفي اللقاءات والمنتديات في كل مكان ينتصر الخطاب الفلسطيني الصادق على الخطاب الاسرائيلي المراوغ والمخادع لكن أصحاب القرار يمارسون الاستخذاء أمام النفوذ والسطوة الصهيونية والمصالح الدنيئة. وهذه الأيام تتحرك مبادرة قوية للطلب من بريطانيا الاعتذار عن الوعد الذي بدأت به نكبة الشعب الفلسطيني، لكن رئيسة وزراء بريطانيا تتزلف لإسرائيل وقد دعت نتنياهو أمس الى احتفال بمئوية وعد بلفور.
غلبة القوة على الحق، حتى الحق الأدنى الذي طالب به الفلسطينيون, أوجد في أوساطهم اتجاهات متطرفة كفرت بالمجتمع الدولي وذهبت الى النمط الإرهابي من المقاومة المسلحة وهو تعبير يائس أعطي غطاء لآلة الحرب الاسرائيلية لتصعيد البطش الوحشي بالفلسطينيين، والأخطر أن يترافق ذلك مع تحول من الخطاب الوطني الى الخطاب الديني في مقاربة القضية الفلسطينية كما جسده شعار "فلسطين وقف إسلامي" الذي يطيح بكل معاني الحق الوطني والإنساني الفلسطيني، فإذا كان الصراع صراع أديان فلا حقوق فيه لكل طرف إلا حسب عقيدته, وحسب العقيدة اليهودية فلسطين هي أرض الميعاد والقدس عاصمتهم التاريخية ومكان هيكلهم كما تقول التوراة، وتحوّل الخطاب الفلسطيني بهذا الاتجاه هو أعظم هدية للصهيونية أمام العالم.
دفعت حماس من جلدها وبتضحيات جسيمة منها ومن الشعب الفلسطيني ثمن تعلم الدروس والعودة الى الخطاب الوطني الذي يتحدث عن حقوق وطنية لشعب يقيم على أرضه منذ فجر التاريخ بغض النظر عن تقلب الديانات والعقائد فيه. فهذا هو الشعب الذي وصل الى الزمن الحاضر وخضع للانتداب البريطاني الذي مكّن غرباء من بلاد وجنسيات شتى أن يدخلوا فلسطين لارتكاب جريمة فجّرت صراعا زلزل المنطقة ويدفع الجميع ثمنه حتى الساعة.
الغد 2017-11-03