احترق كي يضيء الأرض! 1-3
1-
لا يمكن لباحث ذي نظر ثاقب أن يفهم حقيقة ما يجري في بلادنا والعالم اليوم من أحداث جسام، خاصة في المنطقة الخليج، أو إيران، أو الكيان الصهيوني وفلسطين، وحتى في الولايات المتحدة والصين وإسبانيا وبريطانيا، وعموم أوروبا بعد هجمة اليمين المتطرف، دون أن بعود بمسباره البحثي إلى العام ألفين وأحد عشر، وبالتحديد أواخر عام 2010 ومطلع 2011 حين اندلعت موجة عارمة من الثورات والاحتجاجات في مُختلف أنحاء الوطن العربي، حيث بدأت بمحمد البوعزيزي والثورة التونسية التي أطلقت وتيرة الشرارة في كثير من الأقطار العربية وعرفت تلك الفترة بربيع الثورات العربية. من أسباب هذه الاحتجاجات المفاجئة انتشار الفساد والركود الاقتصاديّ وسوء الأحوال المَعيشية، إضافة إلى التضييق السياسيّ وسوء الأوضاع عموماً في البلاد العربية. انتشرت هذه الاحتجاجات بسرعة كبيرة في أغلب البلدان العربية، وقد تضمنت نشوب معارك بين قوات الأمن والمُتظاهرين ووصلت في بعض الأحيان إلى وقوع قتلى من المواطنين ورجال الأمن. تميزت هذه الثورات بظهور هتاف عربيّ أصبح شهيراً في كل الدول العربية وهو: «الشعب يريد إسقاط النظام».
البوعزيزي احترق، ولكنه أضاء عتم الكون، بعد الصفعة التاريخية التي تلقاها من شرطية تونسية حمقاء، مثلت ببعد رمزي كل الصفعات التي تلقاها أحرار العرب والعالم، صاعق التفجير الذي أشعل الأرض، ليس في بلاد العرب فقط، بل في طول الكرة الأرضية وعرضها، وكثيرون حتى اليوم يرون في الثورات التي أطلق شراراتها ذلك الجسد الغاضب، مجرد «مؤامرة» صنعتها القوى المتحكمة في العالم!
-2-
في البعد المنظور اليوم، يمكن لمن يكتفي برؤية «السطح» أن يسخر من كلامنا هذا، ويمكن له أن يعيد على مسامعنا تكرار تلك المقولات المهترئة التي صنعت بإتقان من قبل كل من تضرر من الثورات العربية، نتينياهو مثلا رأى فيها «شتاء إسلاميا»، وفرصة لإعادة رسم خريطة الصراع، بما لا يخدم مشروع العدو الاستعماري، إيران (المفترض نقيضة الكيان!) رحبت بداية بما حل في تونس ومصر وليبيا إلى حد ما، ثم انقلبت على بقية الثورات، وسخرتها لخدمة مشروعها الفارسي الطائفي، أوروبا والولايات المتحدة رحبت إعلاميا وعبر خطابها الرسمي بالثورات، ثم عملت على إجهاضها عبر دعم قوى «الثورة المضادة» وتبنتها بالكامل، وأمدتها بكل أسباب الدعم والحياة ،اضافة لبعض العرب المتضررين من الثورات.
-3-
بوسع المحلل السطحي، والدهماء أن يقولوا بمنتهى الأريحية، أن الثورات فشلت في تحقيق أهدافها، فقد كانت ثورة سوريا المحطة الأكثر دموية في المشهد، وساهم جميع المتضررين في جعلها «عبرة لكل من أمل في التغيير، وربما يكون هذا الأمر يحمل شيئا من الحقيقة، لكن ليس كل الحقيقة، فالثورات أنجت ضدها، وكي يحافظ هذا الضد على «انتصاره» ارتكب من الحماقات ما ساهم في تعميق الثورة، ليس في سطح المشهد، بل في عمقه، وقليل من الباحثين ذوي الرؤية من يستطيعون سبر أغوار المشهد، واستبطان حقيقته، وسنحاول في مقالين تاليين إن شاء الله القيام بهذه المهمة، إن سمحت الظروف!
الدستور 2017-11-06