الإطار الفلسفي لوظيفة الدولــــة فـــي الإســــــلام
بعد انهيار دولة «داعش» المنسوبة ظلماً وبهتاناً للاسلام ينبغي الوقوف على خطورة الفهم السطحي للاسلام، وخطورة أصحاب العلم الضحل عندما يتصدون للحديث باسم الاسلام، أو عندما تغيب الفلسفة الحقيقية التي تستند إليها المفاهيم والاجتهادات، في مختلف مسارات الفقه وخاصة في المجالات السياسية والعلاقات الدولية التي تطورت تطوراً مذهلاً في العصور الحديثة.
فلسفة وظيفة الدولة في الفكر الإسلامي ترتكز على مجموعة مفاهيم كبيرة وواسعة وتستند إلى أدلة قاطعة تستحق العناية من طلبة العلم ومن هم على مقاعد الدراسة في كليات الشريعة والذين يؤمل منهم الامساك بدفة المستقبل العلمي، وتوجيه شراع الفكر الاسلامي نحو الوسطية والاعتدال و صناعة الشهود الحضاري المامول للامة.
المفهوم الأول يتمثل بمفهوم (الخلافة في الأرض)، والمأخوذ من قوله تعالى «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» حيث أن الوجود الانساني على الأرض مرتبط بمعنى الاستخلاف الذي يتبلور من خلال النشاط الجمعي البشري القائم على الاصلاح في الأرض وإعمار الكون، حيث يفترض بمن يحمل هذه الفلسفة أن يسهم في قيادة البشرية نحو هذا الهدف، ولا ينطبق عليه قول الله «وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ».
المفهوم الثاني الذي يتمثل بمفهوم (الأمانة) المأخوذ من قوله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا «، والأمانة تتبلور في حس المسؤولية الكبرى للتجمع المؤمن، الذي وكله الله عز وجل بالعناية بمرافق الكون والعناية بكل الموجودات التي تم تسخيرها ليتمكن الانسان من حمل الأمانة وأدائها على وجهها الأكمل، ولذلك فالإنسان يتحمل مسؤولية رعاية عالم الحيوان وعالم النبات وعالم البحار والمحيطات والغلاف الجوي والعناية بجميع موارد الكون وحفظها وصيانتها وادامتها .
المفهوم الثالث يتمثل (بالعلم والعدل) وهما نقيضا الظلم والجهل، حيث أن الإنسان لا يستطيع حمل الأمانة ولا يستطيع أداء الرسالة ولا القيام بمهمة الاستخلاف إلا من خلال العلم والمعرفة التي تجعله قادراً على اكتشاف نواميس الكون وأسرار الأرض حتى يتمكن من التعامل معها على أسس علمية صحيحة، وعندما يفقد صفة العلم يظلم نفسه ويظلم المخلوقات الأخرى ويؤدي إلى انتشار الفساد في الارض، ولذلك قال تعالى في هذا السياق «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ».
المفهوم الرابع يتمثل بمفهوم (العبادة)، المأخوذ من قوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»، ومعنى العبادة لا ينحصر بالشعائر والطقوس من صلاة وصوم وحج، وإنما يتعدى معناها إلى أن تشمل كل ما يصدر عن المكلف من أقوال وأفعال ومقاصد، وأعلى مقاصد العبادةتتحقق باصلاح النفس وتزكيتها واصلاح الخلق وبذل الجهد في ذلك من خلال حفظ مقاصد الخالق .
المفهوم الخامس يقوم على معنى (الابتلاء) أي الاختبار المأخوذ من قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا»، فوجود الانسان على الأرض محل اختبار من الله، ولا ينجح في هذا الاختبار إلا من أحسن الفهم وأحسن القول وأحسن العمل، وينتج عن فلسفة الابتلاء والاختبار فلسفة التنافس والسباق مع كل الشعوب والأمم وجميع الدول والكيانات السياسية في تقديم ما هو (أحسن)، والأحسن يتمثل بتحقيق مصلحة الناس ومنفعتهم.
هذه المفاهيم السابقة وغيرها تؤدي إلى مفهوم (الشهود الحضاري للأمة)، المشتق من معنى قوله تعالى «لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ»، والشهود الحضاري هو أعلى درجات الشهادة الذي يتمثل بحسن الانجاز الحضاري، والتحضر له ركنان: ركن معنوي: يتمثل بالأفكار والقيم والنظريات المعرفية والاكتشافات العلمية، وركن مادي يتمثل بالانجازات المادية من مخترعات وآلات وبناء وطرق وجسور وقنوات وأدوات.
فأين القائمون على دولة داعش المسخ من هذه الفلسفة ومقتضياتها العملية التطبيقية التي ترتبط بحقيقة الوجود الإنساني المتمثل بالدولة والكيان السياسي المنظم على الأرض ، وحقيقة دوره الانساني الحضاري القائم على تحقيق الاصلاح ومحاربة الفسادوبسط العدل ومقاومة الظلم، وتحقيق الرفاه الاقتصادي والتعاون الانساني في مجالات الخير والبر والتقوى ونبذ العدوان والإثم.
الدستور 2017-11-07