"ابقوا حيث الموسيقى فالأشرار لا يغنون"
يخالجني شوق لدمشق، ولبيروت، كما يخالجني دوما شوق لا متناهٍ للقدس والخليل، أما شوقي لعمان فهو شوق دائم، شوق الحبيب لحبيبته، التي ما إن يغيب عنها لثوان حتى يهزّه الشوق والحنين، أما بغداد والقاهرة وصنعاء، فلها في القلب مكان وفي الفكر حضور.
أشتاق لحواضننا العربية، وأتمنى دوما أن تبتعد عنها شرور ما يحاك وما يخطط ضدها في دهاليز السياسة، التي أتعبتنا بتقلباتها، وروّعتنا بنزف دم لامتناهٍ جعلنا نكره اليوم الذي تسيّد فيه العمل السياسي أغرارٌ يتقلبون على نار المزاج والأهواء، والأمل معقود بأن تخرج حواضننا من ظروفها الخاصة وتعود لتسيّد المشهد السياسي من جديد.
فمن الصعوبة بمكان أن تشاهد ياسمين الشام حزينا ولا تقلق، والأصعب أن ترى خفافيش ظلام يتسيّدون المشهد يريدون أن نصدق ما يقولون، فهم يسعون لسرقة عقولنا، وأسر أحلامنا وثقب آذاننا حتى لا نسمع موسيقى بيتهوفن، وتشايكوفيسكي، وموزارت، ولا نطرب لغناء فيروز، وصباح فخري، وأم كلثوم، كما يسعون لفقء عيوننا حتى لا نقرأ الأدب العربي والعالمي وحتى لا نتمتع بما جاد به محمود درويش ونزار قباني ونجيب محفوظ، وشكسبير، وهمنغواي، وديستويفسكي، وماركيز.
المفرح في الأمر أن ليل الحزن بدأ بالانقشاع، وبدأت بالأثر نور الحقيقة بالانبلاج، وباتت أقرب من أرنبة الأنف، وبات كنس قوى الشر والدمار وخفافيش الظلام وكل من ساعدهم ومولّهم أقرب بكثير من أي وقت مضى، وبتنا نرى عيانا حجم الظلام الذي كان يطمح أولئك الأشرار جرّنا إليه وغمسنا فيه.
اليوم علينا أن نطمئن قليلا ونحن نرى انسحاب اولئك ميدانيا من شامنا وعراقنا، وعلينا أن نفكر جديا بتأهيل التركة التي خلفوها وراءهم، إذ علينا أن لا ننكر أن قوى الشر أثرت في بعضنا، وساهمت في تعطيل العقول عبر الدجل وتخاريف وضعوها هم وآمنوا بها وأرادوا نشرها بين الناس ومارسوها لسنوات.
فبلاد الشام والعراق لم تكن يوما منغلقة على طرف واحد دون الآخر، وإنما تعددت فيها ثقافات وآراء وأديان ووجهات نظر وطوائف وملل، واعتاد الناس عبر السنين أن يحترم بعضهم بعضا، فنادرا ما كان أحد يفكر في ديانة جاره أو طائفة صديقه سواء في العراق أو سورية أو لبنان أو الأردن أو فلسطين، وإنما كان الجميع يؤمن أن الدين لله والوطن للجميع، حتى جاء لنا أولئك بأفكارهم الإرهابية، والتكفيرية، فزرعوا فتنا لم نعتد عليها، وأفكارا لم تخطر بالبال، وتركوا أحقادا يتطلب الأمر توافقا جمعيا لإخراجها من ثنايا نفوس البعض.
أولئك كان هدفهم وما يزال سرقة تاريخنا، وحضارتنا، وروح التسامح بيننا، يريدون تشويه مكنوننا، وتلويث وجداننا وقتل عواطفنا، وتشويه الأفكار التي نشأنا عليها، وزرع أفكارهم المتطرفة بدلا منها.
صحيح أن الدواعش والنصرة وكل من لفّ لفهم ودعمهم ومولهم قد انتهى أمرهم أو يكاد، وصحيح أن الهزيمة العسكرية باتت قريبة، بيد أن المطلوب منا جميعا أن تتضافر جهودنا لهزيمة أولئك القتلة والشواذ فكريا، وطرد كل الافكار السوداء التي حاولوا زرعها في عقول جيلنا الناشئ، وأن نعمل على إعادة تلك الافكار الى مهدها حيث الصحراء المكان الذي انطلقت منه.
نريد استعادة شامنا وبغدادنا خالية من الدواعش ومن افكارهم، كما لا نريد ان تتلوث بيروتنا وعماننا بأفكار اولئك الظلاميين القتلة، ولهذا كله دعونا نعيد غسل الروح قليلا واستعادة الموروث المزروع فينا، ونؤمن أن الوطن للجميع، وأن التسامح هو ما ميزنا ويميزنا وأن ننفض عن أنفسنا كل تقسيم طائفي أو فئوي أو عرقي أو اقليمي أو ديني، وأن نبقى حيث الموسيقى لأن الأشرار لا يغنون.
الغد 2017-11-08