عن خريف العمر وخريف عمان!
اسمحوا لي أن أكتب لنفسي عن خريف العمر، وعن عمان في خريفها الجميل.. عمان القديمة الحاضنة لذاكرة المكان، التي ستلد مدينة اخرى!
انا خريفي المولد، ففي مثل هذا اليوم، وبالتحديد في منتصف الليل أطلقت صرخة الحياة. لذلك اعشق الخريف من بين الفصول، ففيه استعيد ذاكرة الطفولة، حين تسرق الغيمة زرقة البحر، وتستعيد الأرض لونها، بعدما تغتسل الطبيعة الطاهرة بحبات الندى مثل عروس في ليلة زفافها، وتتساقط اوراق الشجر لتختلط باوراق رزنامة العمر التي تنساب من بين اصابع الزمن بعذوبة غافلة، دون التفاتة لنهاية منتظرة.
في فصل الخريف، يعود الزمن الى الوراء ليذكرني بيوم مولدي وأول النشيد مع هبوب أول لنسمة باردة تبشر بقدوم المطر. هي لحظة امسك فيها بنافذة المدى، اسيرعلى غير هدى، أبحث عن مرجعية القلب ووردة العمر الذي غافلني حتى كبرّت دون أن انتباه لوقت.
اليوم اكتب لنفسي، وانا اعرف أنه لم يعد هناك متسع لمزاج او لهو شباب رغم عشقي للورد والحياة وكل ما هو جميل. أكتب دون الخروج من نشيد الحلم، لأن الحلم ضروري في مثل هذا الوقت من اجل القدرة عل تحمل الواقع العربي الذي لم يعد فضاؤه يتّسع لصرخة احتجاج أو كلمة صادقة.
قررت العيش في عالم الكلمة، وانا اعرف أن هذا ليس زمني، فانا من الناجين من الانجراف في لعبة الأقنعة التي لا أخلاق فيها، كما أعرف ان الكتابة قاسية وسط هذا الصراع الضاري الغارق في موجة الأنتحار الذاتي الجمعي العربي. هذا الواقع يبعث في النفس شعورا بضرورة الكتابة من اجل الحفاظ على التوازن الذاتي بطريقة سليمة في زمن من صفاته وسماته: «رجال اكثر وفرسان أقل».
وكما انا، كذلك صديقتي عمان لها خريفها الخاص الذي تلد فيه مدينة اخرى قد يسمونها «عمان الجديدة»، كما هي سنة الحياة وفريضة العمر الخريفي، ولكنها تبقى حاضنة لذاكرة المكان والتاريخ. ولعمان في خريفها أوقات قاسية ستبقى محفورة في الذاكرة كي لا ننسى ولا نغفر. ففي مثل هذا اليوم، عاشت عمان يوما غيرعادي، وبالتحديد في ساعات المساء من التاسع من تشرين الثاني عام 2005 حين اهتزت العاصمة مع دوي انفجارات في ثلاثة فنادق في عملية ارهابية غير مسبوقة بحجمها وبشاعتها ووحشيتها، نفّذها عناصر من سلالة القتل والاغتيال ضمن نشاط تشويهي ينضح بالحقد العاجز. هؤلاء يبجّلون الموت والانتحار، يستفزهم الفرح ويغضبهم الجمال.
في تلك الليلة عاشت عمان، وكل الأردن، حالة من الصدمة والقلق والأرق، وانهمك الجميع بالبحث عن أسباب وجذور هذا التهور المتوحش الذي مبعثه التطرف والتعصب، وهي من صفات غياب العقل. في ذلك الوقت لم ندرك ان العملية الأرهابية كانت بمثابة الأنذار المبكر لاقتراب قدوم الرياح المسمومة التي اجتاحت البلاد العربية تحت عنوان ما سمي بالربيع العربي المزعوم، الذي حمل كل هذا الدمار والتخريب والحقد والكراهية والتعصب والشعارات المضللة المغلفة بالمقدس التي تخاطب غرائز الغاضبين في احزمة الفقر بالوطن العربي، لأن «الفقر هو أسوأ أنواع العنف» حسب قول المهاتما غاندي.
الثابت أن هناك عددا كبيرا من اللاعبين الذين سعوا الى استثمار هذا الغضب وتوظيفه لتفكيك عدد من الدول العربية، عبر استقدام المسلحين المتطرفين من كل صوب، ودعم التنظيمات الإرهابية بالمال والسلاح والإعلام، في سبيل تنفيذ المشروع الأميركي التقسيمي لخلق الشرق الأوسط الجديد.
هذا الصراع الملتهب، جعل ليتر الدم العربي ارخص من سعر ليتر النفط. ولكن في النهاية هذا هو ثمن سقوط المشروع المشبوه وهزيمة الإرهابيين. وقد تشكل هذه التجربة الدامية الكبرى حدا فاصلا بين تاريخين، حيث يتلاشى تاريخ سلالة الموت مع ولادة تاريخنا الأفضل مع بداية ولادة المشروع النهضوي العربي الجديد، الذي تعبر فيه الأمة عن انحيازها للحياة وكل ما هو جميل فيها.
الراي 2017-11-09