انحراف إيجابي!!
فاجأني صديقي بسؤال: هل هناك انحراف إيجابي؟ فتذكرت ما كتبت مرة عن هذا الأمر، حين طلب مني صديق آخرصفعه على خده بقوة، رفضت فأصر على نحو غريب، تمسكت بموقفي فأقسم علي أن أفعلها، دون أن يفصح لي عن سبب هذه الرغبة الشاذة، وأنا أعلم أن صديقي لا يعاني من مرض «المازوخية» أي حب تعذيب الذات، في النهاية وتحت الالحاح الهائل، لم أجد بُدا من الامتثال لأحد أكثر الأفعال بشاعة في حياتي، صفعته وأنا أشعر أنني أرتكب فعلا قبيحا جدا من أجل هدف نبيل!
هذه الحادثة كانت مجرد مقاربة «عرجاء» للانحراف «الايجابي» ان جاز التعبير أصلا، فمجرد طلب انسان سوي من صديقه أن يصفعه، يخرج أو ينحرف عن سياق السلوك المستقيم، فالانحراف صفة سلبية، ولا أريد هنا أن أزينه لا سمح الله، ولكن صاحبي كما عرفت فيما بعد، أخطأ بحق أحد أبنائه، فصفعه في لحظة غضب، وأراد أن يتوازن نفسيا «فيتذوق!» طعم الاهانة، دون أن يكون مصدرها ابنه تحديدا الذي لن يصفع أباه حتى ولو صفعه صفعة أخرى!
سلوكي «الانحرافي» هنا كان عملا نبيلا، رغم ظاهره القبيح، اذ لا يمكن لمن يرقب المشهد أن يتخيل أنني أقوم بعمل «أخلاقي» جدا بصفعي لصديقي! وفي القرآن الكريم أمثلة صارخة على أفعال سيئة جدا في ظاهرها، أو منحرفة لمن لا يعرف كنهها، فيما هي في غاية النبل في باطنها، ألم تقرأوا قصة موسى عليه السلام والعبد الصالح في سورة الكهف؟ هل ثمة أبشع من القتل وخرق السفينة؟ وهما فعلان «بشعان» ظاهرا لم يطق موسى صبرا عليهما وعلى غيرهما، وظل يسأل العبد الصالح عن مغزى أفعاله، رغم اشتراطه أن لا يسأله عن شيء طيلة فترة مرافقته له، وكان اصرار موسى على معرفة كل شيء مدعاة لفض شراكة الصحبة!
إقرأوا إن شئتم الآيات الحادية والسبعين وما بعدها من سورة الكهف.
تطبيقات مسألة «الانحراف» الايجابي في الملف الاجتماعي كثيرة، لكنني سأكتفي هنا بالتعرض لمسألة واحدة مستوحاة من هذا المصطلح، وكانت الدافع الرئيس لطرح هذا الموضوع، وهي تتعلق بسلوكنا المعهود الممتثل لروتين حياتنا اليومي، الذي نشكو عادة أنه باعث على الضجر والملل، وقتل الاحساس وبلادته، يقول الصحابي الجليل حنظلة الأسيدي: انطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافَسْنا – لاعبنا وخالطنا - الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا كثيرا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة – وكررها ثلاثا» رواه مسلم في صحيحه.
إن ما يظنه البعض في ظاهره «انحرافا» عن الوقار وتضييعا للوقت، هو ما تحدث عنه حنظلة قائلا: «نافق حنظلة» ولم يشف فزعه إلا قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «ساعة وساعة».
فنحن لنا قلوب بشر -لا ملائكة- يصيبها الإرهاق والاعياء، ولذلك فالترويح عنها بالمباح ليس تضييعا للوقت ولا «انحرافا!» وإنما هو من صلب الإيمان الذي علَّمه النبي (صلى الله عليه وسلم) صحابته بالترويح عن القلوب ساعة بعد ساعة؛ «فإن القلوب إذا كلت عميت.
الدستور 2017-11-10