وزارة الحقيقة: الأخ الكبير يراقبك
في لحظة تاريخية فارقة قامت هيئة الاذاعة البريطانية ومؤسسة جورج أورويل الاسبوع الماضي بتكريم الروائي والصحافي البريطاني الشهير جورج أورويل بازاحة الستار عن نصب تذكاري له عبارة عن تمثال في باحة مبنى BBC الجديد، وكتب على الحائط نصا مقتبسا من مقدمة روايته الشهيرة "مزرعة الحيوانات"، كالتالي "إذا كان للحرية معنى على الإطلاق، فإنها تعني الحق في قول ما لا يريد البشر سماعه".
اهمية هذا الحدث تبدو من عودة الكثير من المتابعين الى اعمال اورويل هذه الايام وتحديدا روايته الشهيرة التي حملت عنوان (1984) وهي رواية من الخيال السياسي التي يصور فيها مدينة فاسدة تحكمها التكنولوجيا والسياسة الشمولية، حيث يعود اورويل هذه الايام بقوة نظرا الى ان ما ذهب اليه بات يتحقق في اعتقاد كثيرين. إن ما توقعه جورج اورويل في العام 1949 حينما كتب روايته التي يتخيل فيها العالم بعد عقود قليلة بات يتحقق في تحالف بين السياسة الفاسدة القائمة على الشعبوية والاثارة والتغرير بالناس وبين التكنولوجيا التي يهيمن عليها رجال الاعمال، هذا التحالف يقود اليوم الى نسخة فاسدة من الديمقراطية ويقود الإعلام والدعاية الى عالم من الاكاذيب والاخبار الزائفة؛ عالم مخيف لم يعد للحقيقة فيه معنى.
تقدم الرواية الشهيرة أحداثها في مدينة لندن من خلال شخصية ونستون سميث وهو صحفي يعمل في وزارة الحقيقة؛ وهذه الوزارة معنية بصناعة الاخبار الزائفة والاكاذيب والتضليل، وهو يخضع للرقابة من الجميع من آلات الرصد التي تلاحقه في كل مكان في المنزل وفي الشارع وفي العمل اضافة الى رقابة الجيران والاصدقاء؛ انها رواية تصور مجتمعا شموليا يخضع لرقابة شمولية بفعل التكنولوجيا وسطوة الاخ الكبير. يمكن ان تفهم الرواية في سياق الارهاصات المبكرة للحرب الباردة في نقد المجتمعات الشمولية وتحديدا الاشتراكية التي كانت تتشكل في ذلك الوقت، ولكنها تتجاوز الفكرة المركزية التي تحدثت عنها "مزرعة الحيوانات" روايته الاقدم الى نوع من الخيال السياسي المبدع الذي يتصور مستقبل التضليل والتزييف باسم الحقيقة والرقابة والتعذيب باسم الحب وتهشيم الناس والدوس عليهم باسم الوفرة والرفاه.
في المدينة الجديدة أربع وزارات؛ الاولى وزارة الحقيقة تختص بشؤون الاخبار واللهو والتعليم والاحتفالات وهي وزارة لا تمت إلى الحقيقة بصلة، بل مهمتها هي تلفيق اﻷخبار غير الحقيقية والانتصارات الوهمية للأخ الأكبر، ووزارة السلام وتختص بشؤون الحرب، ووزارة الوفرة وتختص بشؤون الاقتصاد، ووزارة الحب وتختص بشؤون تطبيق القانون وفي الحقيقة تعنى بالتعذيب والرقابة.
الملفت ان الرواية تقدم صورا من الخيال الذي بات واقعيا، وتحديدا حينما تتحدث عن التكنولوجيا وتحالفها مع السياسة والسياسيين (الأخ الكبير) ودور هذا التحالف في التضليل والرقابة في الوقت الذي تمتلئ فيه الاجواء بالحديث عن الحرية "وزارة الحقيقة تدير شاشات معدنية قادرة على عدّ الانفاس ومراقبة اي صوت او حركة وهي قادرة على رصد الناس جميعا وقادرة على التدخل في كل لحظة؛ إن كل صوت صادر عنك مسموع وكل حركة تقوم بها مرصودة، إن الأخ الكبير يراقبك".
الغد 2017-11-11