ما بعد ترامب
حينما استيقظت القدس، واستيقظنا معها في اليوم التالي لتصريح دونالد ترامب، "تبيّن" لنا، كما للاحتلال الصهيوني ذاته وداعميه، أن المدينة "كان اسمها القدس، فصار اسمها القدس"؛ فالقلق ليس فينا، وإنما لدى المعتدي والمحتل، لأنه يعرف أن كل مشاريعه الاستيطانية التهويدية لا يمكنها أن تغيّر هوية المدينة. ورغم هذا، فإن جرائم الاحتلال فعلت فعلها بأهالي القدس، الذين باتوا واحدة من أكثر شرائح الشعب الفلسطيني بؤسا، وهم بحاجة لدعم مادي ملموس فوق العادة.
فقبل أكثر من أسبوع من إعلان ترامب، نشرت صحيفة "يسرائيل هيوم" نتائج استطلاع تافه، عن أهالي القدس الفلسطينيين، يزعم أن نسبة عالية، وفي بعض الاسئلة أكثر من نصف المقدسيين، "يفضلون استمرار احتلال المدينة". وتبعت ذلك "تحليلات" في الصحيفة ذاتها، تزعم أن المقدسيين يندمجون في "الأجواء الإسرائيلية"، وليسوا معنيين عمليا بإنهاء الاحتلال.
لم تلتفت وسائل الإعلام الإسرائيلية، ولا نحن، الى نتائج هذا الاستطلاع المفبرك، لما فيه من تشويه لحقيقة الوضع القائم، من أجل تبرير استمرار الاحتلال أمام العالم. ولكننا بالإمكان الآن ربط الأمور ببعضها، فهذه الصحيفة اليومية المجانية، يصدرها الثري الأميركي اليهودي العنصري المتطرف شلدون إدلسون، منذ عشر سنوات، لدعم وتسويق بنيامين نتنياهو.
وإدلسون ذاته، هو من أكبر داعمي الحزب الجمهوري الأميركي، وبالذات الجناح اليميني الأشد تطرفا في صهينته؛ ففي انتخابات العام 2012 صرف إدلسون على "الجمهوريين" حوالي 100 مليون دولار، كما صرف عشرات الملايين على حملة ترامب، وفق ما روته في حينه الصحافة الإسرائيلية؛ لذا ليس من المستبعد، أن يكون هذا الاستطلاع واحدا من الأوراق التي تم تقديمها لفريق ترامب، سعيا لصدور التصريح إياه.
ولكن هذه فرصة لأن تتجه أنظار العرب والعالم، الى واقع الانسان المقدسي البائس، فالاحتلال ارتكب ويرتكب جرائم منهجية ضد المقدسيين على مدار خمسين عاما، جرائم لا تقل بمستواها عن الجرائم ضد المقدسات الاسلامية والمسيحية، إن لم تكن أكثر؛ لأنها تهدف أساسا الى جعل المقدسيين شريحة ضعيفة تلهث وراء قوت يومها، محرومة من الحق الطبيعي بالمسكن والعمل، وتطوير شبكات البنى التحتية، وعصرنة المدينة، التي يتدفق عليها سنويا ملايين السياح. وأهل المدينة الاصليون، لا يصلهم شيء يذكر من الاقتصاد السياحي، مقارنة مع ما يجنيه الاحتلال.
ويعتقد الصهاينة، كما في حال فلسطينيي 48، أن جعل المقدسيين شريحة ضعيفة اقتصاديا واجتماعيا، يشلّ مقاومتهم للاحتلال، ولاحقا يشوه هويتهم الوطنية. ولكن كل هذه الأوهام تتفرقع في المدينة، مع كل مواجهات شعبية مع الاحتلال، كما يحصل في هذه الأيام.
ولكن لا يمكن الرهان فقط على صمود المقدسيين، فهناك حاجة أساسية وماسة لإنقاذهم من البؤس الذي يعيشونه، كي يكونوا قادرين على الاستمرارية في مقاومة الاحتلال. وهم بحاجة لدعم مادي مباشر، في كافة نواحي الحياة، في العلم والتعليم، وأيضا في المسكن، فالاحتلال يفرض عليهم كلفة حياة، من الأغلى في العالم، لا تتناسب إطلاقا مع معدل مداخيلهم المتدنية.
وعودة الى تصريح ترامب، فالكثير من صنّاع الرأي الإسرائيلي، عبّروا عن قلقهم من هذا التصريح. وقسم منهم ولو صغير، هم حقيقة ممن يتبنون مبدأ الدولتين، وأن تكون القدس المحتلة منذ العام 1967 عاصمة للدولة الفلسطينية، ولكن القسم الأكبر من هؤلاء، تقلقهم تبعات التصريح، إلى ما هو أبعد من القدس.
فهؤلاء الكتّاب والسياسيون، يعرفون أن سياسة ترامب وفريقه، متطابقة مع توجهات اليمين الاستيطاني الاشد تطرفا، اليمين الديني الصهيوني المسيطر على المستوطنات. وهذا ينعكس في حقيقة الأسماء الأبرز في فريق ترامب، بما يتعلق بإسرائيل والقضية الفلسطينية: المستشاران جاريد كوشنير، وجيسون غرينبلات، والسفير في تل أبيب ديفيد فريدمان، وتنضم لهم السفيرة في الأمم المتحدة نيكي هالي. وهذا استنتاج يدعمه النبأ في صحيفة "يديعوت أحرنوت" الإسرائيلية أمس الجمعة، القائل، إن قرار ترامب، صدر بتشجيع من كوشنير وغرينبلات، رغم اعتراض الغالبية الساحقة من المستشارين والمسؤولين الأمنيين والسياسيين في محيط ترامب.
إن قلق قسم واسع من أولئك الكتّاب وصنّاع الرأي، نابع من أن اليمين الاستيطاني، يقود نحو ما يسمى "أرض إسرائيل الكاملة"، وبالتالي الدولة الواحدة، التي تعني بنظرهم، نهاية المشروع الصهيوني: "الدولة اليهودية".
الغد 2017-12-09