بعد كل هذه التحولات.. من يحسم الصراع؟
يقود القرار الأميركي الأخير بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الاسرائيلي إلى أن من سيحسم الصراع التاريخي على القدس ليس الهوية السياسة المصطنعة ولا حتى الصراع الديني، بل الهوية الثقافية والديمغرافية للمدينة، وإذا كان قرار ترامب أطلق الرصاصة الاخيرة على العملية السلمية ولن يكون بأي شكل بداية مسار جديد للتسوية كما يقال؛ بعدما تحولت الصفقة الكبرى الى صفعة كبرى ليس للحقوق العربية والفلسطينية بل لكل أنصار قيم الحياة والسلام في العالم.
وبما ان ادارة الصراع تنتقل حاليا الى مرحلة جديدة، فإن التحدي الحقيقي يتمثل في حماية الهوية الديمغرافية والثقافية للمدينة التي تبدو أنها مهددة أكثر من أي وقت آخر.
إن الوقائع على الأرض هي التي سوف تحسم مصير هذه المدينة المعذبة، وتدرك النخب الاسرائيلية هذه الحقيقة، ومن هنا يبدو سعي اسرائيل إلى تغيير الوقائع على الارض، هذا يعني أن البعدين السياسي والديني لا يشكلان أساسا حاسما للصراع. هذا الأمر يدفع الى إعادة مراجعة التقدير السياسي والاستراتيجي في ربط مدخلات الصراع السياسي والديني بالمدخلات الثقافية والديمغرافية، وهذا ما تؤكده الرؤية الإسرائيلية القائمة على مبدأ (القدس مفتوحة دينيا ومغلقة سياسيا) وهو ما دفع الأردن إلى الاعتراف مبكرا بمكانة القدس عند أتباع الديانات الثلاث وأن الاعتراف بهذه المكانة لا يعني بأي شكل المس بهويتها العربية، بل يعني إدراكا معمقا لحقائق الصراع على الأرض واحتمالات الحلول الممكنة في مواجهة سياسة شراء الوقت التي تتبعها اسرائيل التي تخدم محو الهوية العربية للمدينة.
تشير الإحصاءات الإسرائيلية الرسمية الصادرة نهاية العام 2000 إلى أن تعداد السكان في المدينة ارتفع بنسبة 2 % من إجمالي السكان البالغ 646,3 ألف نسمة، بينهم 436,7 ألف يهودي بنسبة 67,6 %، في حين يبلغ عدد السكان العرب 209,5 ألف عربي بنسبة 32,4 %. الى ذلك الوقت كان نمو السكان العرب ضعف اليهود، وفي عام 2016 أشارت مصادر الكتاب الإحصائي الاسرائيلي إلى انه يعيش في القدس اليوم 542 الف يهودي (مقارنة بـ187700 قبل خمسين سنة) و 324 الف عربي (مقارنة بـ86600 قبل خمسين سنة). في السنوات الاخيرة يبدو أن المعادلة لم تعد تعمل ديمغرافيا لصالح الفلسطينيين حيث إن معدل الإنجاب للمرأة اليهودية وصل الى 4.28، في المقابل تراجع معدل إنجاب المرأة الفسطينية الى 3.23 نتيجة التحديث والتغير الاجتماعي وغياب رؤية مركزية لحقائق الصراع.
في الجانب الآخر تنفذ السلطات الاسرائيلية عملية تاريخية ممنهجة لتغيير الملامح الثقافية للمدينة الشرقية والبلدة القديمة التي تستهدف الوصول الى التهويد الناعم الكامل حيث تصاعدت عملية تهويد القدس الشرقية والمسجد الأقصى خلال السنوات الخمس الأخيرة بوتيرة عالية غير مسبوقة؛ أهم ملامحها تصاعد عمليات الاستيطان اليهودي وآخرها إعلان إسرائيل عن بناء نحو (5496) وحدة سكنية في القدس (المنطقة الداخلية الواصلة بين القدس ومعاليه ادوميم) رداً على إعلان قبول عضوية فلسطين كدولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة. واستمرار الصعود السياسي والقضائي والإعلامي لفكرة المعبد في المنظومة السياسية الإسرائيلية، وبعد أن كان مؤيدو الفكرة مجرد أقلية في مطلع تسعينيات القرن الماضي أصبحوا اليوم قوة سياسية كبيرة لا تسهم في تشكيل الحكومات فقط بل تشكل الأغلبية.
يواجه سكان القدس العرب ظروفا قاسية غاية في التعقيد، وضغوطات اسرائيلية على مختلف المستويات؛ فالسكان العرب يواجهون بطالة تتجاوز 70 %، وعمليات الهدم للمساكن تتم بتعسف لا يحدث في مكان آخر في العالم، لا يوجد شيء يمكن أن يقدَّم للقدس اليوم اكثر أهمية من تثبيت صمود السكان العرب وحماية الهوية الثقافية، هذا أهم من كل الإنشاء السياسي وكل أعمال الاحتجاج، الوقائع على الأرض من سيحسم الصراع وليس اي شيء آخر.
الغد 2017-12-10