في عين العاصفة!!
الأردنيون الذين اعتادوا العيش في مجتمع تحكمه الرتابة ويسوده الهدوء، يقضي أهله جل وقتهم يتنقلون بين حسابات التقويم الهجري والميلادي، يروي الكبار منهم قصصا من تاريخ البلاد والأجداد يتبادلون الزيارات ويحدثون بعضهم عن آخر رحلاتهم للحجاز ومشاعرهم وهم يؤدون مناسك الحج والعمرة. غالبية سكان البادية والقرى والبلدات البعيدة يقضون أشهر الخريف وهم يتجادلون حول احتمالية ارتفاع الأسعار أو تحسن الموسم المطري ويخمنون حول درجات الحرارة في رمضان القادم.
اليوم ودون سابق انذار أو استعداد يجد الأردنيون أنفسهم في عين العاصفة. العشرات من القضايا والأحداث تداهمهم وما ان يستعدوا للتعاطي مع إحداها حتى تفاجئهم أخرى أشد وقعا واكثر تهديدا تشعرهم بغرابة العالم ووحشية اللاعبين. منذ أسابيع والأردنيون منشغلون بقضية الخبز والمقترحات البديلة لتوجيه الدعم للأكثر استحقاقا قبل أن يطل علينا الرئيس ترامب ويعلن انحيازه الكامل للصهيونية وتنكره الصريح لحقوق الفلسطينيين والعرب متحديا بذلك مشاعر الأمة ومتجاوزا القرارات الدولية والرأي العام العالمي.
القضايا التي أصبحت تحاصرنا لا تتوقف عند ارتفاع تكاليف المعيشة وانحسار الدعم والمساعدات وزيادة معدلات الفقر والبطالة وتدهور مستوى الثقة بالنواب وتردي الخدمات وشح المياه وتقلب أسعار الطاقة واحتمالية رفع أسعار الخبز، بل تتجاوزها لتشمل مستقبل القدس والتفكير الجدي للبعض بالتآمر على الأردن ومحاصرته والعبث في أمنه واستقراره.
العالم الجديد يبدو غريبا وموحشا تحكمه غرائز بعض من تلاقت مصالحهم، دون أي اعتبار للأبعاد الأخلاقية والإنسانية ومع تجاهل متعمد للحقائق التاريخية والثوابت التي أرست الأمن وعززت الاستقرار.
وسط هذه الغرابة وفي أتون العالم الموحش يحتاج الأردنيون إلى مزيد من التواصل مع قياداتهم وصناع القرار ليخففوا من قلقهم ويوظفوا طاقاتهم ويشعروا بمواطنتهم الفاعلة. فالمشاركة لم تعد ترفا سياسيا أو مناسبة لالتقاط الصور بل هي ضرورة حتمية لتحصين المجتمع من الاختراقات والعمل المتكامل لإفساد المخططات والسير معا باتجاه الأهداف الوطنية.
لذا فإن المطلوب في هذه المرحلة العمل الجاد على تطوير خطة وطنية يجري التعريف بها واستنهاض كافة القوى والفعاليات والكفّ عن الممارسات الإقصائية والشللية والحرص على التواصل الدائم مع كافة المكونات والتشكيلات الاجتماعية والسياسية والقطاعية.
الحالة التي بدا عليها الشارع الأردني خلال الأيام الثلاثة الماضية تكشف عن تعطش الأردنيين للمشاركة ورغبتهم في أن يسهموا في البناء والعمل والدفاع عن هويتهم ومكانتهم وحقوقهم ضد أي تعدّ أو اعتداء مهما كانت مصادره وأشكاله وأدواته. الموقف الشعبي والحكومي اليوم يعيد إلى الذاكرة صورة الأردن العام 1991 عندما وقف الشعب ونوابه وأحزابه ومعارضته جنبا إلى جنب بعد أن قررت القيادة الأردنية رفض المشاركة في القتال العربي العربي الذي رتبته أميركا وبمشاركة غالبية الجيوش وقاوم جلالة المغفور له الحسين بن طلال ضغوط الإدارة الأميركية وتهديداتها ليجيب جلالته إدارة الرئيس الأميركي "جورج بوش الأب" بأن لا أحد يستطيع أن يخالف إرادة الشعب.
الحالة نفسها تجلت مرة أخرى في أعقاب الاعتداءات الإرهابية على فنادق عمان في 2005 وتكررت بعد إقدام داعش على إعدام الطيار الأردني معاذ الكساسبة قبل سنوات.
بصرف النظر عن المنبت أو الأصل والدين ومن غير تفكير أو اعتبار للتصنيفات والأعمار والمواقف من السياسة والرياضة، عبّر الأردنيون عن رفضهم واستنكارهم للقرار الأميركي الجائر واستهجنوا بكل الوسائل والأدوات مضمون ومبررات وأسلوب إخراج القرار وأعلنوا عن شجبهم له وتمسكهم بالقدس رمزا دينيا لمعتقداتهم وقوميا لعروبتهم واستعدادهم للبذل والتضحية في سبيل حمايتها والحفاظ على هويتها ومنع تهويدها.
الموقف الأردني كان متناغما مع موقف المجتمع الدولي وموضع تقدير عميق من الشارع الأردني وقاعدة وأنموذجا للعمل والعلاقة التي يمكن أن تديمها الدولة مع مواطنيها، فهم مصدر السلطة والداعم للقرار وأقوى البراهين على سلامة الموقف. نتمنى أن تستمر الدولة على هذا النهج وأن تحافظ على الروح التي ولدتها الأحداث.
الغد 2017-12-10