هنا والآن... لنتوحد في الميدان
في الأردن، كما في فلسطين، تتحول خلافات سياسية وعقائدية بين قوى سياسية واجتماعية مختلفة، إلى سبب يحول دون القيام بجهد وطني منسق وموحد، في مواجهة “تحدي ترامب”... وتحول مخاوف من عمليات “تجيير” أو “توظيف” دون إعمال منطق التنسيق والتعاون وتغليبه على هذه الحسابات والحساسيات، مع أن الشعوب وقواها الحيّة، تضع جانباً خلافاتها في أوقات الشدة والمنعطفات الكبرى، وتتوحد في الميدان.
ولقد مرت القوى السياسية، الأردنية والفلسطينية، على حد سواء، في ظروف مختلفة وأوقات متعاقبة، بتجارب تسمح على الاعتقاد بأن إمكانية تحقيق هذه “الآلية” ما زالت قائمة ... وهي بكل تأكيد أفضل من “آلية” أخرى، يجري اتباعها حالياً، ويمكن تسميتها: “السير منفردين والضرب في الاتجاه”.
قضية القدس لا تحتمل التأجيل، وتحويل الهبة إلى انتفاضة، هدف يجب أن يتقدم على غيره من الأهداف والحسابات والحساسيات، بما فيها المخاوف التي يبديها البعض من إحجام السلطة وترددها عن دفع الأحداث بهذا الاتجاه، إذ حتى بفرض تردد السلطة وإحجامها، فإن تطوير الفعل الشعبي الغاضب، وتحويل إلى مقاومة شعبية سلمية واسعة النطاق، أمر يمكن حدوثه، بل وحتى فرضه على كل المترددين، أياً كانت مواقعهم وصفاتهم.
وثمة حاجة لـ”مأسسة الغضب” الفلسطيني، وتحويله من طاقة احتجاج عارمة، إلى أداة تغيير ورافعة تحوّل مهمة، تستنقذ البرنامج الوطني الفلسطيني مما آل إليه سواء بفعل التقدم الذي حققه المشروع الصهيوني على الأرض، أو جراء الانحياز الأمريكي الأعمى لإسرائيل، أو بفعل حالة التفكك والانقسام التي عاشتها الحركة الوطنية الفلسطينية.
ونعني بـ”مأسسة الغضب” إلى جانب ما ورد، تخليق وعي مؤسسي، يبدأ بالأحياء والشوارع والحارات، لإدارة الغضب والتحضير لإدامة الانتفاضة ... وللفلسطينيين في هذا المجال، تجارب رائدة في الانتفاضة الأولى ... يجب استحضارها بقوة، مثلما يجب الانتقال بسوية التنسيق ورفع مستواه، في سياق تطور الحدث ... المهم الانتصار في معركة الشارع، وكسر الرهان الإسرائيلي على “هدأته” بعد أيام قلائل.
ويتعين على العقل الفلسطيني، اليوم وقبل غدٍ، اجتراح الخطط والاستراتيجيات، التي تكفل من جهة تحويل الهبة إلى انتفاضة، وتضمن من جهة ثانية، إدامة الانتفاضة وديمومة الفعل الشعبي المقاوم، وتعمل من جهة ثالثة، على ألا يتعارض الهدفان معاً، مع الهدف الأسمى، والمتمثل في تعزيز صمود الفلسطيني على أرضه، وإدارة حياته اليومية وأمور معاشه، فنحن لا نتحدث عن انتفاضة يومين وأسبوعين، بل عن فعل جماهيري يتعين أن يمتد لسنوات.
والذين يخشون اليوم نجاح طرف منافس في “قطف الثمار” و”توظيف المشهد”، عليهم أن يدركوا أن الانتفاضة ستطلق ديناميكياتها، وأنها ستخرج قوى وتدخل أخرى، على مسرح السياسة والقيادة والفضاء العام، وأن من يثبت حضوره بين الناس وفي صفوفهم، وعلى خطوط التماس الأولى، هو الذي سيظفر في نهاية المطاف، وهو الذي سترفعه الجماهير المنتفضة إلى سدة قيادتها، حتى وإن الحال بخلاف ذلك اليوم.
وإنها فرصة للقوى اليسارية والديمقراطية بشكل خاص، لتتخطى المآلات البائسة التي آلت بيها، والخروج من شرنقة الحصار بين فكي “السلطة” و”حماس” ... هنا والآن، يمكن إعادة بعث هذا التيار من جديد، وتمكينه من التحول إلى قطب ثالث، بعد أن ضاعت هويته في لعبة الاستقطاب التي أجهزت على لونه وطعمه ورائحته، وأظهرته ملحقاً تابعاً لهذا الفريق أو ذاك.
هنا والآن، يمكن أن ينبثق القطب الثالث، الذي طالما اشتكى من غيابه النظام السياسي الفلسطيني والحركة الوطنية الفلسطينية، وأجيال من المناضلين المعارضين لعجز السلطة وترهلها، والرافضين لأصولية مكلفة، ثبت أنها أعجز عن قيادة شعب وشق مسار بديل عن مسار السلطة.
هنا والآن، يمكن أن تختبر كافة المحاولات التي بذلت منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، لإطلاق موجة ديمقراطية تقدمية وطنية، بملامح خاصة، والتي باءت جميعها بالفشل ... وسط هذه المعمعة، يمكن للوعي أن يكتوي وللإرادة أن تنصقل والحراك أن ينطلق.
وعلى الرغم من الفوارق المعروفة بين السياقين الأردني والفلسطيني، إلا أن ثمة مشتركات تجعل العناصر العامة لهذه المقاربة/ الدعوة صالحة على ضفتي النهر الخالد، فمن يرفضون التنسيق خشية ابتلاع الرايات الخضراء لراياتهم الحمراء، عليهم أن يتذكروا أنها “أم المعارك” مع الاحتلال والاستعمار ... ومن يستمسكون بـ “عذريتهم” و”طهارتهم”، ولا يريدون المس بها من قبل أي فريق خارجهم، عليهم أن يتذكروا أن الحزب الجديد، أو التيار الجديد، لن ينبثق “خلف الحيطة”، بل في ساحات “المسجد الحسيني” و”راس العين” ومختلف شوارع وساحات القرى والبلدات والمدن والمخيمات الأردنية.
الدستور 2017-12-17