إكسير حياة للتطرف حول العالم!
لم تكن القدس ولا فلسطين المحتلتان يوما "دار هجرة" للتنظيمات السلفية المتطرفة التي تتمسح بالدين الإسلامي، وهو منها براء، لتقضّ مضاجعها اليوم خطوة الرئيس ترامب الأهوج بالاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لكيان الاحتلال وتدشينه محاولة عدائية لدولة كبرى بإضفاء شرعية دولية على تهويد المدينة المقدسة وابتلاعها. فلا غرابة أن تغيب التعليقات والبيانات عن عصابات "داعش" و"القاعدة" وغيرها من تنظيمات متطرفة تجاه قضية القدس التي ألهبت العالم بشرقه وغربه.
طبعا؛ الحمد لله أن هذه القضية غابت عن خطاب هذه الحركات المتطرفة، لأنها تضر ولا تنفع القضية العادلة للشعب الفلسطيني والعربي، وخطابها المتطرف يفرق ولا يجمع المناصرين حول العالم. كما أن ذلك أمر متوقع من هذه التنظيمات التي باتت بندقية للإيجار تُحرّكها، دعما وتسليحا أحيانا.. وأحيانا استغلالا وتوظيفا، دول وقوى وأجهزة مخابرات عالمية ضمن صراعات النفوذ والمصالح، فيما لا يدرج الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي ضمن هذه الأجندات والتوظيفات لأسباب يفترض أنها لم تعد خافية على كل من يملك عقلا ونظرا!
معركة القدس والقضية الفلسطينية اليوم، التي عادت بعد القرار الأميركي المشؤوم لتصدر الواجهة والأحداث الساخنة في الإقليم والعالم بعد بيات شتوي طويل خلال فترة ما سمي بـ"الربيع العربي"، فرضت فرزا إيجابيا بين معسكرين بالعالم، معسكر يقف مع الحق الواضح للشعب الفلسطيني بأرضه وقدسه، وهو معسكر يضم دولا وحكومات ومؤسسات دولية وإقليمية.. ونجزم أنه يضم كل شعوب العالم أيضا، ومعسكر مقابل ينحاز للاحتلال الإسرائيلي وتطرفه الدموي وبالضد من التاريخ والقانون الدولي وحقوق الشعوب، وهو يضم بضع حكومات وإدارات ومنظمات يمينية منحازة للخرافات الصهيونية أو صاحبة أجندات ومصالح مع إسرائيل وداعميها الدوليين.
الحركات السلفية المتطرفة، التي أوغلت طويلا بدماء الأبرياء عربا ومسلمين وغربيين وشرقيين، اختارت بحيادها الظاهر الانضمام للمعسكر الثاني، وقد لا يكون ذلك مستغربا؛ فالقرار الأميركي الأحمق والعدائي يصب بالمحصلة في بث الكراهية ويذكي صراع الحضارات ويكرس انقسامات خطيرة – نأمل أن تفشل- بين اتباع الديانات، ما يعزز خطاب وأيديولوجية الحركات المتطرفة، وفكرها الإقصائي والانعزالي، ويمدها بإكسير حياة.
وهنا تكمن الكارثة؛ فالتماهي الأميركي الأعمى مع كيان الاحتلال الغارق بيمينيته وشوفينيته الدموية والمنفلتة من كل عقال، يقدم خدمة على طبق من ذهب للفكر المتطرف والمنحرف ببوصلته حتى وإن لم تسع تلك الحركات السلفية المنظمة كداعش والقاعدة لاستغلاله مباشرة، وهذا ما كان وما يزال يحذر منه سياسيون وحكومات ومراكز دراسات وكتاب عالميون، فالاستهتار الأميركي بمشاعر مئات الملايين من البشر من مسلمين ومسيحيين وبأقدس بقاعهم وحقوقهم المشروعة تاريخيا وإنسانيا وقانونيا لا يخدم إلا خطاب الكراهية والدم والإرهاب الأعمى.
قد يكون الحادث المؤلم الذي وقع في الغابون بأفريقيا أول من أمس، وجرح فيه مواطنان دنماركيان بريئان مجرد بروفة لما يمكن أن نتوقعه من جرائم متطرفة بحق مدنيين غربيين أبرياء، على خلفية القرار الأميركي حول القدس، فبحسب المعلومات فإن مرتكب الجريمة بحق الدنماركيين، وهو رجل نيجيري مسلم، قال بالتحقيق إنه طعن السائحين بسكينه احتجاجا على قرار ترامب ضد القدس.
التقارير والدراسات الغربية تشير إلى أن الحملات العسكرية والأمنية الحثيثة ضد تنظيمي "داعش" و"القاعدة" بالمنطقة وضد خلايا التنظيمين ومناصريهما في الدول الغربية ذاتها، تحد إلى درجة كبيرة من قدرتهما على تنفيذ عمليات إرهابية كبيرة كما جرى في باريس العام الماضي، لكن ذات التقارير تشير إلى أن الخطورة الإرهابية تأتي اليوم من توفر مناصرين لتلك التنظيمات ممن يتحركون بمبادرة شخصية لتنفيذ أعمال إرهابية.
في ظل هذا التقدير الأمني الغربي تأتي إدارة مأفونة ومتحجرة بيمينيتها لتصب النار على الزيت، وتمنح خطاب الكراهية والانقسامات بين الغرب والشرق إكسير حياة، سندفع جميعا ثمنه وضريبته!!
الغد 2017-12-18