مدنية أو حداثة ولكن بدون حضارة
عندما أخذ ظلام العصور الوسطى في أوروبا يتراجع لصالح النور أو عصر التنوير أو الأنوار، أو الحداثة القائمة على العلم والثورة الصناعية، كانت حضارة أوروبية جديدة تبزغ إلى جانبه وتنمو معه وتكبر به وتتفوق، قائمة على القيم والآداب والفنون والالتزامات الفردية والاجتماعية أو الضمير الجديد، الملتزم بالواجب، والحق، والوقت، والموعد، والصدق، والأمانة، والنزاهة، والنظافة، والحق/ المال العام، والحرية، والديموقراطية، وأخيراً الَعلْمانية وحقوق الإنسان والبيئة.
وهكذا تكّون نموذج حضاري أو أخلاقي أوروبي صار مثالاً للاقتداء به من كثير من الأمم والحضارات، كما يقول الأخ العزيز والمفكر الشاب معاذ بني عامر في مقاله: العرب والغرب وقنافذ شوبنهاور (الغد في 15/12/2017).
في أثناء بزوغ تلك النهضة أو الحضارة وتطورها السريع، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، كانت بقية العالم أو القارات تغط في سبات حضارات قديمة نفدت ذخيرتها، مما جعل أصحابها يتطلعون إلى تلك الحضارة البازغة ويرغبون في اقتدائها كما يفيد المفكر معاذ.
ولكن المشكلة أنه لما كانت المدنية أو الحداثة الناجمة عن العلم والثورة الصناعية وفيما بعد الثورة التكنولوجية، صيغة (Figure) بارزة في خلفية/ أرضية خفية، (Background) فقد تطلّع أصحاب تلك الحضارات إلى امتلاك الصيغة المرئية دون الخلقية أو الأرضية وكأنهم لا يرونها وهكذا. ركزوا على المغلف ورموا الرسالة في سلة المهملات. ولكن المغلف طار في الهواء منفصلاً عن الأرضية، أي لم يثبت في الأرضية الجديدة لأنه غريب عنها. كان عليهم تعديل الصيغة لقبوله أو تعديل الأرضية لاستقباله، ولما كان ذلك صعباً في الحالتين وأصعب في الثانية منه في الأولى فقد ظلوا يحاولون ربط المغلف بخيط مع الأرض فكان كطيارة ترويحية في الهواء كالتي يلعب بها الأطفال.
كانت النتيجة تمتعهم بالمدنية/ الحداثة الناجمة عن المغلف أو المرافقة له، فقد عَبّدوا الطرق، وأنشأوا المطارات، وركبوا السيارات والطائرات، وأوصلوا المياه والكهرباء والغسالات والثلاجات والتلفزيونات والكمبيوترات والتلفونات الخلوية... إلى البيوت وأنشأوا الخدمات كالتعليم والصحة.. وامتلأت متاجرهم بالسلع المستوردة، فتحولت المدنية أو الحداثة عندهم إلى استهلاك... مجرد استهلاك، وجزء كبير منه تظاهري. ظنوا أنهم به يتماثلون مع أوروبا بل ويتفوقون عليها به، وازدحام المرور شاهد عليه.
في غمرة هذا الاقتداء أو التقليد الأعمى حدث صراع بين قيم الحضارات القديمة غير الملائمة للصيغة وقيم الحضارة الجديدة منشئة الصيغة. والعدوان على الحق العام أو المال العام في الإنتاج، والإنتاجية، والوقت، والدوام، وعلى شبكتي الكهرباء والماء، وغياب النظافة العامة، والصدق، والنزاهة، والعدل، والمساواة الأفقية والعمودية، وآداب المرور... وهمجية العلاقات الاجتماعية دليل عليه. أي ان أصحاب تلك الحضارات بقوا قنافذ اجتماعياً: محلياً وقومياً ودينياً ومذهبياً تغرز أنيابها في لحم بعضها البعض، لأن قيم تلك الحضارات الرعوية او الزراعية أو البدوية... تسمح بذلك.
لم تستطع تلك الحضارات أو الأمم الاقتباس كما فعلت اليابان وكوريا اللتان نسختا مدنية أوروبا أو حداثتها وطورتهما إلى المستوى الحضاري الأوروبي دون أن تفقد كل منهما هويتها.
وعليه أتفق مع المفكر الشاب معاذ في نشوء نموذج حضاري أوروبي صار مثالاً للاقتداء من كثير من الأمم والحضارات، ولكن السؤال هو: هل المدونة الأخلاقية تسبق استعادة العرب (والمسلمين) عصر الأنوار بخلفيته العقلانية، والديمقراطية، والعلمانية أم تتبعه؟ أعتقد أنها ترافقه لأن المدونة الأخلاقية الراهنة في تلك الحضارات أو عند تلك الأمم، لا تصلح لاستعادته دون التخلي عنها.
وأختلف مع الأخ العزيز معاذ في أن النموذج الأوروبي الجديد لا يسعد بمآسي غيره، لأن النموذج لا يسمح له بذلك، بل بالعكس - وبخاصة في الفرع الاسكندنافي من النموذج - يدفعه إلى المبادرات الإنسانية، وأطباء بلا حدود مجرد مثال.
المشكلة الآن في أوروبا أو في الغرب أن هذا النموذج يتعرض للتشويه: مرة بالشعوبية التي تسعى لاستعادة مدونة أو قيم عصر القومية والاستعمار والإقصاء والاستعباد، وأخرى بالتبرير البيولوجي الطبي لإضفاء الشرعية على الزواج المثلي.
القدس 2017-12-18