"المكابيون الجدد" يحتلون أميركا
بقليل من الاكتراث، وكثير من الفجاجة، استخدمت الولايات المتحدة الأميركية حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، في الأمم المتحدة، ضد مشروع القرار المضاد لسياستها بشأن القدس. وردت واشنطن على الذهاب لقرار معروف سلفاً أنّه سيفشل، أنّه لن يُشكّل إحراجاً لها، بل لباقي المجلس، وتوعدت أنّ هذه الخطوة لن تغتفر، وكل ذلك وسط خِطاب يعتبر انتصار "الواحد" الأميركي على "الكثرة" هو انتصار الخيّر على الأشرار.
أفشلت الولايات المتحدة الأميركية، مشروع القرار المصري، الذي لا يذكر الولايات المتحدة باسمها، ولكنه يدعو الدول إلى "الامتناع عن تأسيس بعثات دبلوماسية في مدينة القدس المقدسة"، وكما هو متوقع سقط القرار الذي وافقت عليه 14 دولة بصوت أميركي وحيد.
وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المندوبة الأميركية نيكي هيللي، في فيديو بثّه على وسائل التواصل الاجتماعي، تعقيباً على خطابها في الأمم المتحدة، بأنّها من المكابي (المقاتلين اليهود الذين سيطروا على القدس في القرن الثاني قبل الميلاد بحسب المعتقد أو الرواية اليهودية)، وخاطبها على تويتر، قائلاً "لقد أضئتِ شمعة الحقيقة. وبددتِ الظلام. أنتِ الواحد الذي هزم الكثرة. شكراً للرئيس ترامب، شكراً لنيكي هيللي". وهذه الروح التي تعتبر ما يحدث انتصار القلة الخيّرة على الأغلبية الشريرة، ليست بعيدة عما ينتشر في الصحافة الإسرائيلية، التي ترى ما حدث نصراً وفتحاً من السماء، من مثل مقال في يديعوت أحرنوت، جاء فيه "قيل إنّ السماء والأرض التقتا في أزقة القدس المقدسة". وجاء أنّ "المبادئ اللاهوتية، حوّلت الصراع إلى معركة بين الخير والشر".
في الأثناء أجّل مايك بينس، نائب الرئيس الأميركي زيارته للقدس والمنطقة، بعد أن ووجه بمقاطعة سياسية ودينية من المرجعيات المسلمة والمسيحية في المنطقة. وهو الذي كان قد أعلن على الأشهاد أنّ زيارته هدفها "ليمشي على الأرض المقدسة للمدينة المقدسة التي بناها الملك داوود قبل ثلاثة آلاف عام".
فكرة الواحد الذي غلب الكثرة، وجدت صداها حتى في الصحافة غير المؤيدة للفيتو الأميركي، بعنوان صحيفة "الغارديان" مثلاً: "الولايات المتحدة أكثر outnumbered من 14".
أهم ما في رد هيللي على مشروع القرار ليس القول إنّه تدخل في السيادة الأميركية، بل القول إنّه ليس مُحرِجاً لها، بل سيكون محرجاً لباقي المجلس. وهذا يعني ردا مباشرا على الرئيس الفلسطيني، الذي قال إنّ تكرار الذهاب للأمم المتحدة، ومجلس الأمن، سيكون من بين أهدافه إحراج الولايات المتحدة. والإحراج الذي تُلمّح لَهُ هيللي، إظهار العالم والنظام الدولي بمظهر العاجز أمام القوة الأميركية. والنقطة الثانية المهمة في رد هيللي، المرشحة لاستلام موقع أهم في الإدارة الأميركية، قد يكون وزارة الخارجية، تحذيره أنّ مشروع القرار "إساءة لا تنسى".
خطاب هيللي وتهديداتها تنسجم مع ما أعلنه دونالد ترامب، في ذات اليوم، أثناء إعلانه استراتيجية الأمن القومي التي وصفها مراقبون بأنها عودة لخطاب الحرب الباردة، وقالت صحف منها على الأقل نيويورك تايمز، وشيكاغو تربيون، إنّها تضمنت "إنذاراً لعالم خياني"، كما يراه.
سحبت مصر العام الفائت مشروع قرارها لإدانة الاستيطان بناءً على تدخل ووعود من فريق ترامب، قبل شهر من تسلم الأخير لمنصبه رسمياً، الذي خرق قواعد العمل السياسي، وهو يتدخل في عمل الإدارة الأميركية العاملة أنذاك. وفي هذا العام قدمت مصر المشروع، ويبدو من المبرر التساؤل هل من باب المصادفة، أن ينشر دبلوماسيان أميركيان سابقان، بالتزامن مع تقديم القرار المصري، مقالا في نيويورك تايمز، يدعوان لخفض المساعدات لمصر، لأنّها حليف غير مفيد، مع الطمأنة أنّ مصر لا تقوى على فعل شيء مضاد إذا خفضت المعونات لها. فهل أسلوب العصا هو الذي سيتم استخدامه، وستُلقى الجزرة جانباً؟
بهذا المعنى فإنّ مسألة إحراج الولايات المتحدة ليست بالسهولة المتوقعة. فحساسية هذه الإدارة المليئة بالصهاينة المتدينين أو الراكضين خلفهم، قليلة، وهي غارقة في خطاب ديني وشعور بالتفوق والحصانة. وهذا لا يعني إلا أن جرعات مواجهة السياسة الأميركية يجب أن تكون كبيرة، وسريعة، تجنّد العالم لمواجهة خطر هذه الإدارة، وتخاطب النُخب الأميركية الليبرالية، التي ستفقد أي مكان لها مع تقدم مشروع "المكابيين" الجدد في السياسة الأميركية، وتوسعة خطوات كمقاطعة بينس.
الغد 2017-12-20