ما نحن سوى الشتاء
لم تكن حياتنا سوى ما يقدمه الشتاء أو نتحدى به البرد القارس، قصتنا هي إدارة وتدبير الماء والغذاء والدفء والاستقرار، لم يكن ذلك تلقائيا ومتاحا، وما يبدو بديهيا اليوم كان تحولا إبداعيا مدهشا؛ تحويل الفائض الذي تمنحه الطبيعة في الصيف والخريف إلى موارد وأطعمة وسلع جديدة تساعد على البقاء والاستقرار في مكان واحد طوال العام، وتحويل فائض الماء في الشتاء إلى أنظمة ري وتخزين للماء يعين على مواصلة الزراعة والحياة في الصيف، الكتابة لم تكن لأجل الشعر أو الفلسفة والدين ولكن للتجارة، تنظيم وتوثيق العمليات والحسابات التجارية والدواوين والمؤسسات التي تدير المال والحقوق والتبادل.. وكانت أيضا المدن، ولم تكن الأطعمة السائدة حتى اليوم من المجففات والمملحات والمخللات والسكريات أو القابلة للتخزين والحفظ سوى الحيلة المدهشة لأجل البقاء في بيئة وظروف وخيارات يبدو فيها الموت مرضا أو جوعا أو بردا واردا. التقدم الصحي في العالم مرده إلى تحسن الغذاء والنظافة أكثر من التقدم العلمي والتقني!
اليوم تبدو ثمة آفاق واسعة لعالم أكثر جمالا وتقدما برغم ما يصاحب ذلك من خوف، فالطاقة التي هي مفتاح المستقبل وقصة التقدم الانساني، هي المحرك الرئيس للخدمات الحيوية؛ الصحة والغذاء والنقل والتجارة.. تبدو ممكنة بمصادر متاحة ومتجددة مثل الشمس والرياح، ويُتوقع أن تشكل 50 % من مصادر الطاقة بحلول العام 2025.
والمدخل الثاني في صياغة المستقبل هو الإبداع والابتكار. وهو مزيج من الموارد والحرية والعدالة والتكنولوجيا والتجارة. ويبدو ذلك أيضا ممكنا ومتاحا لنا، لا نحتاج لأجل ذلك سوى الإرادة والنية الحسنة وإنهاء الاحتكار! فإذا تجاوزنا الاستبداد والاحتكار وهي مسألة حتمية؛ فالأوليغاركيا تلعب في الوقت الضائع فإن العالم بحدود العام 2040 سيكون حرّا، ويقضى على الفقر، ويتاح التعليم مجانا عبر الشبكات الإلكترونية، ويزيد التفاهم العالمي ويقل التوتر والنزاع، وتزيد معدلات العمر والثروة، وتكون الاتصالات والإنترنت متاحة لجميع الشعوب.
لكن بالنسبة لي سيظل الشتاء يعني عمليات التسلل إلى عباءة أبي وهو متدثر بها وجالس في الصباح بجوار موقد النار يتلو القرآن وينتظر الإفطار، فينادي متظاهرا بأنه لا يراني .. وين إبراهيم؟ فأبالغ في سكوني وانكمش معتقدا أنني مختفٍ عن الأنظار.. وفي بعض الأيام ينسى أبي وجودي ملتصقا به ومختفيا في عباءته أو يكون منشغلا بالتلاوة.. فأذكّره قائلا .. يابا قول وين إبراهيم.. فيما بعد صار أبنائي يأتون في اثناء جلوسي متدثرا بالعباءة فيلتفون بها معي... وكنت أنادي وين جهاد؟ ثم أجده أو يظهر منتصرا.. وعندما كنت أنسى أو انشغل عنه.. يذكرني قائلا بابا قول وين جهاد...
اليوم أنادي بلهفة وليس مسرحية .. وين أبوي؟ وين جهاد؟ .. مضى أبي في رحلة النور والسلام، وترك جهاد والديه كما يقول المسيح عليه السلام في الانجيل "يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسدا واحدا" ليبدأ حياته مستقلا وزوجته منتظرا ولده ليتدثر بعباءته ويتظاهر بالاختفاء ويبحث عنه جهاد متظاهرا بأنه لا يعرف أين هو..
الغد 2017-12-21