"عهد" بطلة رغما عنها
كان من المفترض أن تكون عهد التميمي ابنة الـ 16 عاما، من قرية النبي صالح الصغيرة، مثلها كمثل أبناء جيلها في العالم المتحرر من الاحتلال والاستبداد والتنكيل؛ تفكر بمستقبلها بعد انهاء المرحلة المدرسية. وتخطط كيف تمضي يوميا أوقات الفراغ بما هو جميل لها؛ إلا أن الواقع المُر الذي تعيشه، سوية مع عائلتها وشعبها ككل، جعل منها بطلة بغير ارادتها؛ بطلة في مقاومة شعبية، هي من أكثر ما يرعب إسرائيل والصهيونية، وهذا يفسر الملاحقة الشرسة لعهد وعائلتها.
قرية النبي صالح، واحدة من قرى فلسطين الصغيرة، يعيش فيها حوالي 500 نسمة، قسم كبير من أراضيها مصادر للاستيطان، وهي واحدة من القرى المحاصرة، ومدخلها محدود، ومحرومة من الكثير من امكانيات التطور. وهي أيضا واحدة من القرى التي تشهد ديمومة في المقاومة الشعبية الأسبوعية، منذ سنوات عديدة. وتستقطب قوى سلام مناهضة للاحتلال عالمية وحتى إسرائيلية.
ويسعى جيش الاحتلال طيلة الوقت، لإخماد هذه المقاومة العزلاء، بالقتل والبطش والترهيب. ولكن الاحتلال يفشل بكل مخططاته، فها هم الأطفال تتملكهم جبروت، ما كانوا سيعرفونها لو كانوا يعيشون حياة طبيعية، كباقي أطفال العالم.
قيل الكثير، وسيقال أكثر عن هذه الفتاة الصغيرة عهد التميمي، التي شهدها العالم في العام 2012، حينما كانت ابنة 11 عاما، لا أكثر، تتصدى بكل ما أوتيت من قوة طفولية، لاعتقال والدتها بعد ضربها على يد جنود الاحتلال. وشهدها العالم في العام 2015، حينما كانت ابنة 14 عاما، تحاول مع والدتها وأخريات من نساء فلسطين، إفلات أحد الفتيان، الذي اعتقله جندي احتلال معتدٍ، في واحدة من مسيرات القرية الأسبوعية.
ولكن تعالوا نتأمل الشريط الذي انتشر في كل شبكات التواصل ووسائل الإعلام العالمية، فكل ما فعلته عهد، أنها دفعت بذراعها الغضة جندي احتلال مدجج بالسلاح، وبالبزّة العسكرية الثقيلة، يقف معتديا في ساحة بيتها؛ وهو ليس بريئا، بل هو جزء من اجرام الاحتلال، وقيل إنه من ضمن الفرقة العسكرية التي أطلقت النار قصدا على رأس فتى من القرية (15 عاما)، وهو بحالة حرجة.
وهي لم تسبب "ضررا" لشخص الجندي، بل داست على "هيبة" أكبر جيش احتلال في عصرنا الحالي. وبثت رسالة واضحة، باسم شعبها، وبالأساس باسم الأجيال الناشئة، وباسم كل طفل فلسطيني يولد الآن: "أن لا سكينة أمام الاحتلال، وأن فجر الحرية قادم". وهذه رسالة عرفتها منذ وقت طويل، البائدة غولدا مئير، التي قالت ذات يوم عن الشعب الفلسطيني: "الكبار سيموتون والصغار سينسون".
قد لا يستوعب البعض حينما نقول إن أكثر ما يرعب إسرائيل وقوتها العسكرية، هي المقاومة الشعبية العزلاء؛ ورعبها يتفاقم أكثر، حينما تجد نفسها في مواجهة أطفال، وشيوخ متقدمين بالسن. ولا تمر انتفاضة، أو هبّة فلسطينية، إلا وكانت مشاهد في وسائل الإعلام لأطفال وشيوخ يتصدون لجنود الاحتلال. وهذه المشاهد تنتشر بسرعة في الرأي العام العالمي، الذي ما عاد كما كان في سنوات خلت، مناصرا بالقدر الكافي لقضية فلسطين.
وقلق الصهيونية هذا، انعكس بثلاثة قوانين أقرها الكنيست قبل عام، تستهدف الأطفال وعائلاتهم، ممن هم دون سن 14 عاما؛ إذ سيكون متاحا لمحاكم الاحتلال تقديم الأطفال الصغار للمحاكمة وسجنهم، ومعاقبة أهاليهم، وحتى دون تحديد حد أدنى لمن "يجوز" محاكمتهم.
يرى الاحتلال، أنه "وأخيرا" باتت عهد التميمي في قبضته، لينهي مسلسلا من المشاهد البطولية التي رأيناها. وما من شك، في أن الاحتلال سيستهدف هذه الفتاة الصغيرة، ولن يسمح لها بممارسة حياة طبيعية، حتى بعد أن تحاكم وتجلس في السجن لفترة لا نستطيع تقديرها الآن. ولكن في داخله يعرف أنه إذا قبض على عهد، وهي لن تنكسر، فإن في الشعب الفلسطيني عشرات الآلاف من أمثال عهد.
إن المطلوب اليوم، هو حملة عالمية منظمة، متواصلة لا تتوقف، تصل إلى أوسع قواعد الرأي العام العالمي، عبر الاتصال المباشر، ومن خلال وسائل الإعلام وشبكات التواصل، من أجل اطلاق سراح عهد التميمي.
حذار ثم حذار، من أن تغيب عهد التميمي يوما عن أجندتنا ونشاطنا، فهي رفعت معنويات شعبها، وتستحق منا الرد بالمثل.
الغد 2017-12-23