الخيارات الأردنية الواقعية
ليس صحيحا ان الأردن بات وحيدا ومعزولا الى هذه الدرجة التي يروّج لها في الاسابيع الاخيرة، فما يزال الاردن اكثر دول الاقليم حضورا وتبادلا للمصالح على المستوى الدولي، واذا ما اراد اعادة بناء تحالفاته الاقليمية فان الفرص واسعة ومتعددة؛ فالاستثمار في المبادئ والمواقف التاريخية قد يكون استثمارا مستقبليا اكثر جدوى حتى من منظور ادارة المصالح والسياسة الواقعية.
قد تكون هذه التحولات محفزا لبداية تحولات داخلية تكون بمثابة ليلة القدر الأردنية التي طالما انتظرناها؛ أي الوصول الى لحظة الحقيقة الوطنية التي تقود الى قرارات اكثر استقلالية في الاصلاح الاقتصادي والسياسي والثقافي بعيدا عن ضعوطات وارتهانات الخارج.
الصورة ليست كما تبدو في عشرات المواد الإعلامية التي تختفي فيها المساحة بين المعلومات والتحليل، او تلك التي تصدمنا بعشرات القصص المسنودة لمصادر مجهولة ومجهِّلة، لا يمكن للأردن ان ينسحب من الاقليم او الجوار، ولا يمكن للجوار ولا للولايات المتحدة مهما اتسعت الفجوات واختلفت الاولويات أن يدير أي منهما ظهره للأردن بسهولة، فثمة مصالح حاضرة متبادلة بين الأطراف كافة، وليس الأردن وحده من له مصالح بل الأطراف الأخرى لها مصالح عميقة مع الأردن، وان لم تكن منظوره بوضوح احيانا، علينا ان نكون اكثر واقعية في فهم السياسة الدولية بعيدا عن السذاجة والتبسيط والاثارة والانفعال، لقد وصل الأمر ببعض وسائل الإعلام أن صوّرت أن تهديدات الرئيس الاميركي ترامب حول قطع المساعدات عن الدول التي صوتت لصالح قرار الجمعية العامة حول القدس بأنه يقصد الأردن!
مطلوب ان يبني الأردن خيارات واقعية تفضي الى ضمان استقلالية قراراته الخارجية والداخلية بما يخدم المصالح الوطنية اولا، ومن ثم الوصول إلى أدنى حد ممكن من الصراعات أو الخلافات مع دول الإقليم ثانيا، وتنويع الأصدقاء والحلفاء ثالثا، فالثراء السياسي الحقيقي في هذه الأوقات يدفع نحو معادلة تكون فيها الخلافات الخارجية صفرا؛ أي أصدقاء للجميع. قد يكون هذا الطرح صعبا في النظرة الاولى لكنه غير مستحيل بل يقع في صلب الواقعية السياسية.
يلاحظ في هذا الوقت حجم ودور الدعاية السياسية في إدارة الملفات السياسية الإقليمية، فعكس ما اعتدنا عليه بأن تكون الدعاية السياسية أداة من أدوات السياسة الخارجية للدول، نجد اليوم ان السياسات الخارجية الإقليمية تكاد تدار بالكامل من خلال الدعاية السياسية، حيث تتكاثر أنماط متنوعة من صناعة الاكاذيب والتلفيق وينشط الخيال السياسي المريض، وتنمو هذه الظاهرة الى جانب نمو انماط اخرى من الشعبوية وتصنيع الرموز وبيع الناس مشاعر وانفعالات قد تكون زائفة، وهذه الظواهر لا تخدم الواقعية السياسية التي يحتاجها الأردن.
الواقعية الجديدة تتطلب العمل على مستويين؛ الأول تضييق مساحة الخلاقات مع الاصدقاء التقليديين وإغلاق ابواب التأزيم في مقابل فتح الباب امام بناء صداقات جديدة وتبادل مصالح جديدة، وهنا يمكن ان تعمل الدبلوماسية الرسمية الى جانب الدبلوماسية الشعبية في خلق اختراقات حقيقية. المستوى الثاني، أنه قد حان الوقت للابتعاد عن قاموس التحالفات الاقليمي المبني على الاستقطاب الى نموذج تبادل المصالح والصداقات المثمرة كما يسود على المستوى الدولي، ما يحتاج لغة جديدة وخطابا مختلفا.
في لحظة ما على الدولة أن تبني الشراكات والصداقات والتحالفات ايضا على مسطرة الندية، والتخلي عن انماط الشراكات المفتقدة للتوازن التي قد تجعل الطرف الذي يعتقد أنه الأضعف يدفع الثمن مضاعفا، فالانداد هم الأقدر والأكثر كفاءة وحرصا في الحفاظ على هذه الأنماط من العلاقات بين الدول؛ والندية هي القادرة على حماية المصالح.
الغد 2017-12-24