فيلم أبيض وأسود!
بصراحة، ومع احترامي الشديد لشخص محافظ العاصمة (على الصعيد الشخصي)، إلاّ أنّ النفي الذي أصدره أمس بعدم منع إقامة فعاليات التحالف الوطني المدني يذكّرنا بعقلية الـ57 (التي تحدّثنا عنها في مقالٍ سابق)، وبزمن الأفلام القديمة (الأبيض والأسود)!
أمّا تصريح المصدر الرفيع (وفق خبر الغد أمس) بـ" إرجاء النظر في قضية اجتماع التحالف المدني"، معللا ذلك بـ"ما تمر به البلاد من ظروف سياسية حرجة على جميع الأصعدة، وتتعلق بقضية القدس الراهنة"؛ فهو تصريح مهم جداً، لأنّه يكشف لنا بأنّ "العقلية الرسمية" تفكّر خارج إطار الزمان والمكان، وحتى في عدم القدرة على إدراك اللحظة الراهنة!
المفارقة أنّ هذا المنع يأتي ونحن نمرّ بمنعرج تاريخي خطير، نتحدث فيه عن تحليق في السياسة الخارجية الأردنية، وحالة توافق سياسي داخلي كبيرة حول مواقعنا، وضرورة أن يترافق ذلك ويتزاوج مع انفتاح سياسي داخلي وتوسيع قاعدة المشاركة في الفعاليات السياسية للوقوف، وتصليب وتقوية الجبهة الداخلية، لأنّنا لا يمكن أن نواجه هذا "الوضع الخارجي"، وندير الأزمة مع إدارة ترامب وإسرائيل والضعف الاستراتيجي العربي إلاّ بحالة داخلية فاعلة وقوية!
المعضلة أنّنا نواجه التحديات الخارجية ونحن وسط أزمتين (بالمناسبة وليست أزمة واحدة) مالية واقتصادية، وأمام إصرار من صندوق النقد الدولي على قرارات صعبة، ونمو محدود جداً للناتج المحلي الإجمالي، بما يقترب من حالة السكون الاقتصادي، ونقول للشعب إنّ عليهم أن يعرفوا بأنّ هنالك كلفة لمواقفنا المبدئية تجاه القدس والملفات الإقليمية الأخرى. وكل ذلك كان يدفع إلى أن تعطي الحكومة الفرصة كاملة للتحالف الوطني ولأي فعاليات سياسية داخلية لتوسيع قاعدة العمل السياسي اليوم.
وإذا كنّا نتحدث عن ضرورة تغيير العقلية البيروقراطية في مجال الاقتصاد والاستثمار، وعن عمليات إصلاح جوهرية في مجالات التعليم والإدارة، وعن تعزيز قنوات الاتصال السياسي بين الحكومة والشارع من أجل مواجهة هذه الاستحقاقات، فمن باب أولى تغيير العقلية السياسية الرسمية التي تقف وراء مثل هذا القرار في منع فعالية عادية للتحضير للإعلان عن حزب سياسي.
هل المشكلة في د. مروان المعشّر؟! لأنّ الأسماء الأخرى التي شاهدناها في الفيلم القصير الدعائي للتحالف، بعضها قريب جداً من "الخط الرسمي"، وبعضها يفتقد المصداقية، وبعضها معركته الأولى ليست الإصلاح السياسي..الخ؟
إذا كان كذلك (وهو أحد الأسباب الرئيسة في ظني)، فإنّ التبرير أو التفسير أقرب إلى المثل الشعبي "عذر أقبح من ذنب"، فلماذا لا يكون المعشّر، وهو السياسي والمثقف، وابن الدولة، عضواً أو حتى قائداً أو مؤسساً لحزب سياسي يعمل ضمن المنظومة السياسية والقانونية والدستورية؟! وإلاّ فما هو الخيار الآخر الذي تريده الدولة لشخصيات سياسية معارضة، أو حتى نقدية (لأنّ الوصف الأدق في نظري لمروان أنّه صاحب رؤية نقدية)؟!
مثل هذا القرار لو دُرس - ضمن أبجديات القراءة والكتابة السياسية- لوجدنا أنّ أضراره على الدولة ومصداقيتها وسمعتها وعلاقتها بالناس أكبر بكثير من إيجابياته المتوهمة، وهو يخدم التحالف المدني ويعطيه قوة دفع كبيرة ودعاية مجّانية إعلامياً وسياسياً وشعبياً!
هذه ليست المرّة الأولى التي تسقط فيها الحكومات في اختبار المصداقية، فالأمر نفسه ينطبق على مشروع حزب ليبرالي (تخيّلوا!) يضم شخصيات سياسية، كانت نسبة كبيرة منهم من الوزراء السابقين، تمّت عملية إجهاض رسمي للحزب، قبل أن يولد!
بعد ذلك، لا داعي للتباكي على واقع التجارب الحزبية والعمل العام، ولا ندّعي أنّ هنالك وزارة للتنمية السياسية وقانون أحزاب، طالما أنّ الناس عند لحظة الحقيقة تواجه مثل هذه القرارات!
الغد 2017-12-24