الفلسطيني "المعتدل"..!
يقول الكاتب جون رايت في تعليقه على اعتراف ترامب بالقدس عاصمة للكيان: "المفارقة أن هذه الخطوة التي اتخذها ترامب تضعف الأمن الإسرائيلي ولا تقويه. وسوف تخدم تهميش الأصوات الفلسطينية المعتدلة وتسمح للأصوات الأكثر تطرفاً بالتقدم إلى الواجهة، وتكون قادرة على أن تشير إلى هذا الإجراء على أنه دليل غير قابل للدحض على عقم الحل الدبلوماسي للأزمة، وعلى جلب الدعم لإيمانها في المقاومة بأي وسائل ضرورية، بما في ذلك المقاومة الفيزيائية".
تقول هذه الفقرة الكثير عن المفارقات الشائعة في الخطاب الغربي –والعربي أيضاً- حين يتعلق الأمر بالمصطلحات والمفاهيم المتورطة في وصف حيثيات الصراع. وكما نرى في الفقرة المقتبسة أعلاه، فإن الكاتب المتعاطف مع الفلسطينيين غالباً، يقول إن قرار ترامب بشأن القدس سيهمش الأصوات "المعتدلة"، ويجلب الأصوات "الأكثر تطرفاً" إلى الواجهة. ثم يصف "الأكثر تطرفاً" بأنهم أولئك الذين يستطيعون أن يطعنوا في جدوى الحل الدبلوماسي (بقيادة أميركا المعادية للفلسطينيين بوضوح)، أو يعبئوا الفلسطينيين للمقاومة بأي وسائل.
بذلك، يكون الفلسطيني "المعتدل" هو الفلسطيني المستعد لخداع نفسه والاستمرار في "عملية السلام" التي عملت ضده وضد مواطنيه، وبقيادة عدوه الألد الولايات المتحدة. و"المعتدل" هو المستعد للقبول بدولة فلسطينية مقطعة الأوصال، منزوعة السلاح، في جزء ذريّ من فلسطين التاريخية، مع التنازل عن حق العودة والتخلي عن كل الفلسطينيين المنفيين.
أما الذي يشكك في هذه العملية العبثية، ويفكر في المقاومة -التي هي حق مشروع لكل شعب خاضع للاحتلال- فإنه "أكثر تطرفاً" على الأقل، و"متطرف" وربما "إرهابي" في نهاية المطاف. وبهذا التعريف، يكون فلسطينياً "متطرفاً" مَن يُطالب بالحد الأدنى: بدولة فلسطينية حرة وطبيعية متكاملة الأجزاء في الضفة وغزة، مع سحب المستوطنات وبالقدس الشرقية عاصمة لها، حسب قرارات الشرعية الدولية. وسيكون متطرفاً أيضاً من يطالب بالتوقف عن التفاوض لدى عدم وفاء الخصم بشروط الاتفاق، كما حدث في "أوسلو" عندما لم تُقم الدولة في الوقت المحدد، وإن تواصَل بناء المستوطنات وتوسيع احتلال الأراضي الفلسطينية؛ أو الذي يدافع عن مواطنيه المضطهدين ضد الاعتقال والقتل ويتخذ إجراء لحمايتهم.
وبطبيعة الحال، سيكون الفلسطيني "المتطرف" و"المتشدد"، هو ابن فلسطين التاريخية، 1948، الذي يطالب بحقه في العودة إلى داره وممتلكاته. وإذا كان معظم الفلسطينيين لاجئين –سواء في الضفة وغزة أو في المنفى خارج الوطن- ويطالبون بشكل طبيعي بالعودة، فإن الفلسطينيين العاديين كلهم "متطرفون" لهذا السبب. والفلسطيني "المتطرف"، المطالب بحقه والمقاوم، هو كذلك لأنه "يضعف الأمن الإسرائيلي"، كما يقول جون رايت أعلاه. ولكن، أي "اعتدال" في حماية أو عدم إضعاف أمن عدو يحتلك، في حين إضعاف أمن الاحتلال واجب طبيعي على كل إنسان طبيعي؟
وإذن، الفلسطيني "المعتدل" فقط هو الفلسطيني المستسلم، والقابل للخداع، والمستعد للتنازل عن حقوقه الوطنية، والذي لا يرفع يداً ولا صوتاً في وجه عدوٍ قاتل. وفي المقابل، يعامَل المستوطن الغازي في فلسطين التاريخية المحتلة، لمجرد قبول التخلي عن جزء من الضفة وغزة للفلسطينيين، على أنه "معتدل". وقد أصبح –حتى أكثرنا اطلاعاً- يتعامل مع المستوطنين في فلسطين ممَّن يدعون إلى مثل ذلك –غالباً بدافع الحفاظ على نقاء "الدولة اليهودية"، على أنهم معتدلون وتقدميون، ولو أنهم يتمسكون بالاحتفاظ بأرضنا وممتلكاتنا التاريخية التي سرقوها!
ربما يمكن وصف الفلسطينيين الذين يقبلون التفاوض من أجل أي دولة فلسطينية بأنهم "براغماتيون"، أو "تكتيكيون"، لكن إسناد صفة "معتدلين" لهذه المجموعة بالذات يحدد المصطلح فيما لا ينبغي أن يتحدَّد به. ولا بد أن تضعنا مساهمتنا في ترويج هذا الوصف في خطابنا مباشرة في فئة المخدوعين. ولا يبتعد ذلك عن استيرادنا المستمر للتعريفات الغربية للمفاهيم والأشياء واستخدامها في خطابنا كما هي، بلا أي تدقيق.
في الإطار الأوسع أيضاً، يُستخدم وصف "العرب المعتدلين" لوصف العرب المتحالفين مع الولايات المتحدة. وكأن "الاعتدال" في هذا الزمن هو التماهي مع الدولة المستأسدة الأنانية، راعية الاحتلالات والمعادية لكل أحلام الشعوب. وإذا صادف أن تحدث أي عرب عن رؤية عربية قومية تتعارض مع اشتراطات "الاعتدال" الأميركية، فإنه سيصبح مباشرة "متطرفاً" وضد السِّلم الإقليمي والعالمي! ربما آن لنا أن ندقِّق أكثر في تعريف المفاهيم، والكف عن السذاجة.
الغد 2017-12-28