نظام ترامب الاقتصادي يبدأ من منع الطلبة الأجانب
يعرِفُ مؤرخو الهيمنة الأميركية، أنّ الجامعات لعبت دوراً في نشر هذه الهيمنة. فعلى سبيل المثال، في كتابها الشهير "عقيدة الصدمة" الذي تحول إلى فيلم جذّاب، توضّح نعومي كلاين، كيف أنّ جامعة شيكاغو، بشكل خاص، أنتجت ما يسمى "أولاد شيكاغو" للإشارة لطلبة تخرجوا من الجامعة، وعادوا لبلدانهم يروجون للاقتصاد الحرّ وتحرير الأسواق ومنع القوانين والقيود، ومن أمثلة الفيلم الأوضح، تشيلي. وبشكل عام فإنّ الفكر اليساري، وأصحاب مدرسة "التبعية"، تبنوا مقولة ظهور الاستعمار بأدوات غير عسكرية، منها الشركات التي تستخدم التجارة الحرة ذريعةً لدخول البلدان الأخرى. ويبدو أنّ ترامب سيغير جزءا من هذه السياسات، ويتبع سياسات جديدة، أقرب للمركنتلية التقليدية، أي المذاهب الكلاسيكية التي تؤمن بالسيطرة على الاقتصاد لصالح السياسة والأمن.
في الجزء الاقتصادي من استراتيجية الأمن القومي، التي أطلقها الأسبوع الفائت، يرفض ترامب النظرية الليبرالية التي تقول إنّ نظاما ليبراليا تجاريا يؤدي إلى ليبرالية اقتصادية وسياسية. وبموجب هذه المقولة كان رؤساء يعتقدون مثلا أنّ الصين باستفادتها من التجارة مع الولايات المتحدة الأميركية، لن تتحدى واشنطن بسبب مصالحهما المشتركة، وستنتقل تدريجيا للديمقراطية داخلياً. ورغم أن ّهذه السياسة ناجحة وخلقت حالة تجعل الصين حريصة على الازدهار الأميركي، فبدون سوق الولايات لمتحدة القوي تبور البضائع الصينية، فإنّ ترامب يرى زاوية أخرى. ويقول "لقد ساعدَت الولايات المتحدة على مدّ النظام الاقتصادي التجاري الليبرالي لدول لا تتبنى قيمنا (الحرية)، على أمل أن يؤدي ذلك بهذه الدول إلى تحرير ممارساتها الاقتصادية والسياسية مما يحقق منافع موازية للولايات المتحدة، ولكن الخبرة العملية تظهر أن هذه الدول لم تحرر اقتصاداتها وسياستها"، واتهم دولاً بأنها تمارس "الانتهاكات، والغش، والعدوان الاقتصادي"، و"إغراق الأسواق، وقيود غير جمركية على الأسواق"، وقال ستُتَخذ كل الوسائل لمنع ذلك.
من ضمن ذلك يريد ترامب تحرير الأسواق الداخلية لمنع انتقال الاستثمارات للخارج، وسيعارض التكتلات الاقتصادية الدولية، وهنا سيظهر سؤال هل سيناوئ فكرة الاتحاد الأوروبي، ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، وتجمعات أخرى؟
يركز ترامب كثيراً على مسألة "حقوق الملكية الفكرية" ويتهم دولا بأنّها تقوم "بفرض نقل التكنولوجيا بالقوة، ويتبنى سياسات لمنع انتقال الاختراعات الأميركية للخارج، ويذكر من ذلك، تحت عنوان "تقييد إجراءات التأشيرات"، "فرض قيود على طلبة العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، من دول معينة، للتأكد أن الملكية الفكرية لا يتم نقلها لمنافسينا". ويذكر أيضاً أهمية أن تقوم "الشركات والجامعات بهزيمة التجسس والسرقة"، وهو يقصد بالطبع التجسس العلمي والاقتصادي. ويرد ضمناً على مقولة أنّ المهاجرين والطلبة الأجانب، قدموا كفاءات خدمت الاقتصاد الأميركي، بالقول "هذا مع تأكيد أهميّة استقطاب أكثر قوة عمل متقدمة تقنياً". ويبدو ترامب هنا كما لو كان يؤكد ما يزعمه البعض أن الأميركيين كانوا يمنعون في الماضي بعض من يحصل على علم تقني متطور من العودة لبلاده.
هناك مدرسة ليبرالية في العلاقات الدولية، من روادها في العقدين الأخيرين، جوزيف ناي، صاحب مصطلح القوة الناعمة، ويتصل بهذه المدرسة فكرة "الدبلوماسية الشعبية"، التي تقوم على تقديم الولايات المتحدة نفسها للعالم، بطرق جذّابة، فيسعى الآخرون لتقليدها، والسير في المسارات التي تريدها طوعاً دون إجبار، هذا فضلاً عن خلق مصالح اقتصادية مع الآخرين تمنع تفكيرهم بالتحدي والحرب.
حتى أشد الليبراليين الجدد تطرفاً، ممن خدموا الهيمنة الأميركية حول العالم، من أمثال عالم الاقتصاد في جامعة شيكاغو ميلتون فريدمان، كان يفكر بسبل فيها قوة ناعمة وتحرير الاقتصاد، أما ترامب فيقول إنّ تحرير الاقتصاد سيكون "مع من يشاركوننا قيمنا"، ويَعِدُ بوسائل، قد تعني عمليا حرباً اقتصادية، ولكنه يقدم هذا بلغة أمنية دفاعية، تقوم على اتهام الآخرين بالهجوم الاقتصادي على الولايات المتحدة باسم الليبرالية.
قد لا يستطيع ترامب تمرير كل أفكاره عندما يصطدم بالواقع، ولكن على العالم المراقبة بحذر، ما الذي ينوي ترامب فعله اقتصادياً عالميّاً، وهل سيبقى الأمر دفاعياً حمائياً أم سيصل حدّ مهاجمة الآخرين، لإجبارهم على تقديم تنازلات تجارية، باسم "التجا
رة العادلة"، وبذريعة تحملهم جزءا من أعباء الدور الأميركي العالمي الأمني.
الدستور 2017-12-28