إعادة اكتشاف الذات
ليس وحدهم الأفراد رجالا ونساء هم من لديهم القدرة على تحويل التحديات الى فرص؛ بل ايضا يمكن ان تفعل هذا المجتمعات والدول. يتردد هذا الخطاب مرارا وتكرارا في الحالة الأردنية، لكن اليوم نحن امام لحظة الحقيقة التي قد تكون نعمة من السماء لاعادة اكتشاف الذات من خلال اعادة التفكير والكشف عن القدرات الحقيقية التي تعيد تأهيل الدولة والمجتمع للتخلص من آثار عقود طويلة من الاقتصاد السياسي المعتل، الذي قد يكون أفاد البلاد وصان الاستقرار في لحظات معينة، لكنه لم يحفظ الاستقلال الاقتصادي او السياسي في يوم، ولم يسهم بشكل جدي في خلق تراكم نوعي في معظم مؤشرات قوة الدولة.
لم تمر لحظة تاريخية تشهد فيها الدولة الأردنية رغبة في التأكيد على خطاب الاعتماد على الذات مثلما يحدث هذه الايام؛ وسط هشاشة اقتصادية غير مسبوقة الى جانب قلق سياسي متنام في ضوء ما يشهده الاقليم من تحولات عميقة، إلى جانب ما يشهده العالم من تيارات براغماتية تعصف بالسياسة الدولية. وعلى عكس ما يذهب تيار التشاؤم المحلي بأننا نخنق في زاوية مغلقة، فإن هذه الظروف والتحديات قد تتحول إذا ما توفرت الإرادة الى لحظة الحقيقة التي تدفع بقوة الدولة والمجتمع معا نحو اعادة اكتشاف الذات والدفع نحو اصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية حقيقية ترددت الدولة في تحقيقها وتواطأ المجتمع في تمرير هذا التردد والسكون عنه لفترات طويلة.
هناك العديد من ملفات الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي كانت حاضرة في الخطابين الرسمي والمجتمعي ولكنها لم تؤخذ بجدية وصرامة وبقيت جزءا من الاستعراضات الوطنية التي توظفها النخب وبعض المؤسسات لتحقيق اهداف او اغراض آنية دون إحداث تحولات جدية؛ مثل ملفات اصلاح المالية العامة والاستثمار والضريبة والنزاهة ومكافحة الفساد وتنمية المحافظات او بناء قاعدة انتاجية وطنية او اعادة بناء الموارد البشرية، دوما كان هناك ترياق يأتي من الخارج يجعلنا نبقى على قيد الحياة ولكنه غير قادر على حماية الحياة واستمرارها. في لحظة اكتشاف الذات ثمة فرصة حقيقية لإحداث قطيعة حقيقية مع عقود من التعايش مع التشوهات الاقتصادية والارتهان السياسي.
تملك الدولة الأردنية واحدة من أطول الخبرات الإقليمية والدولية في إدارة الاستقرار، وواحدة من أكثر التجارب الهادئة في إدارة التحولات في الاقتصاد والسياسة والعلاقة مع المجتمع؛ الأمر الذي يطرح السؤال الذي على الدولة وحدها ان تواجهه بكل جرأة وصرامة؛ عن مصدر العلل الراهنة وموقف الدولة الأردنية الراهن في خلق ارادة الاشتباك والاختراق في احداث التغيير الواقعي والممكن والخروج من الدوران في الحلقة المفرغة، الى هذا الوقت لم يظهر الخطاب الاقتصادي الرسمي اي افكار ابتكارية جديدة او نوايا نحو استدارة ولو صغيرة في الفكر الاقتصادي أي العودة لادارة الاقتصاد من الداخل.
يعتمد تكوين هياكل الاقتصاد السياسي في الأصل على قرارات سياسية داخلية وسيادية، لكن جوهر تفاعلات الاقتصاد السياسي ترتبط بالتفاعلات الخارجية، تفاعلات تعاونية، صراعية، إرغامية، ولكنها تعود في الأصل الى إرادة داخلية، وها نحن نصل للحظة الاعتراف بأن ذهنية ما أدارت البلاد منذ عقود بالاقتصاد السياسي المشوه؛ ما زاد من مساحة الاعتماد على الخارج على حساب السيادة الوطنية وجعل ملفات الاصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ملفات مؤجلة، وزادت من فصل المجتمع عن قيم الانتاج وضخمت من قطاعات البزنس الاستهلاكي الرخيص على حساب الانتاج، وأهملت السياسات الاجتماعية بل وأضعفت الاستقرار الذي ما يزال المورد الأغلى للدولة. إعادة اكتشاف الذات في اللحظات الصعبة فضيلة كبرى.
الغد 2017-12-30