2018: عام الاستئناف
ما يجري في إيران يرجح أن الربيع العربي مايزال يؤثر عميقا في اتجاهات السياسة والمجتمعات والأفراد، وأن الثورات والصراعات المسلحة ليست سوى قشرة رقيقة تخفي تحولات كبرى، بل إن ما يجري في صمت يؤثر بقوة وعمق أكثر بكثير مما يبدو في الظاهر أو ما تؤشر إليه الصراعات العنيفة، ويمكن الملاحظة أن جدالات الشباب العرب اليوم وأفكارهم حول الدين والسياسة والحياة والحكم على نحو يشجع على القول إن عالم العرب المقبل سيتغيّر بفعل الأفكار بطريقة أكثر جذرية وعمقاً مما أنتجته الثورات والصراعات المسلحة والعنيفة.
كنت قد أشرت في مقالة سابقة إلى رواية امبرتو ايكو "اسم الوردة" والتي تعرض الجدل الأوروبي في القرن الرابع عشر، وما يهمنا في ملاحظة ما يدور في فضائنا اليوم هو كيف اتجه الغرب في حماس ولهفة إلى التجربة العربية، كان التصوّر الغربي عن عالم العرب أنه متقدّم أكثر مما هو في الواقع، وكان طلبة العلم المتلهفون للعلوم العربية يتصوّرون كما يقول إيكو أن يتمكن الإنسان من استخدام آلات ملاحة تجعل السفن تُبحر بقيادة رجل واحد، وستكون هناك عربات لا تجرّها دواب وتسير بسرعة عظيمة، وآلات تطير في السماء مثل الطيور ويركب فيها الإنسان، وآلات ترفع أثقالاً لا حدّ لها، ومراكب تسير في قاع البحر.
يسأل الفتى أستاذه: وهل هذه الآلات موجودة؟ فيجيبه: كانت موجودة من قبل واختفت، لكن لا تغتمّ إن لم تكن موجودة، وأقول لك الربّ يريدها أن تكون موجودة، ولم يجدوا عند العرب بالطبع شيئاً من ذلك، لكنهم وجدوا لديهم إبرة عجيبة تعمل وحدها فتؤشر دائماً إلى الشمال، تمكّنوا بفضلها أن يُبحروا بسفنهم في البحار البعيدة المظلمة ويصلوا إلى أماكن بعيدة جداً وراء البحار قبل أن يعودوا إلى ديارهم.
والحال أن الغربيين تعلموا أن يبحثوا ويفكروا أكثر مما تعلموا من المنتجات والتقنيات الجاهزة، ربما استفادوا من الأدوية والمستحضرات وكتب العلوم والطب، مثل القانون لابن سينا، لكن الحدث الأكبر هو الجدل الفلسفي والفكري الذي انطلق، ولم توقفه كل محاكم التفتيش والبطش. يقول الفتى لأستاذه: أظن أنني لم أعد قادراً على تمييز الفوارق بين أتباع الفكر الحُرّ والمقلّدين، فماذا أفعل؟ يردّ الأستاذ: إن الخلاف ليس بين مذاهب وأفكار، لكنه بين المهمّشين والمتسلطين، فكل الهرطقات التي نحاربها راياتُ إقصاء، وأما التفريق بين ما هو صحيح وما هو باطل فليس سوى ألعاب نلهو بها نحن رجال الفكر، وأما البسطاء من الناس فلهم مشكلات أخرى يحلّونها بطريقة خاطئة، ولذلك يصبحون هراطقة، ولذلك كانت الكنيسة تعترف بالهرطقات التي أصبحت قوية ولها أتباع كثيرون، ولا يُستحسن أن تظل في صفوف أعدائها. وقد ساعدت الحكومات المدنية الهراطقة وشجّعت كُثُراً من عامة الناس على أن يكونوا وعّاظاً يُزاحِمون القسّيسين والكهنة في عملهم، ثم أعانت الكنيسة عليهم ومكّنتها من حرقهم!
لم تكن محاكم التفتيش إذن وكذلك الحروب والصراعات الدامية والاتهامات بالهرطقة والادعاء بالطريق القويم سوى لافتات للصراعات على الحقوق والحريات، وإن كان من درس يجب تعلمه اليوم فهو الاستجابة بهدوء لمتطلبات المشاركة وضرورة التخلي عن كل مكاسب غير عادلة!
الغد 2018-01-03