إيران: العالم يعود إلى ماقبل 1979
ربما تفشل حركة الإيرانيين للتحرر من الهيمنة الدينية السياسية كما فشلت عام 2009 لكنها تعكس على نحو واضح الأزمة الكبيرة والعميقة في عالم العرب والمسلمين اليوم؛ إذ لا بديل للطغيان سواء كان حكما فرديا أو دينيا سوى الفوضى أو مجتمعات قادرة على تنظيم نفسها، وهو ما يبدو أصعب من الثورة نفسها، فهذا التنظيم المدني لا يتشكل في فترة قصيرة ولا تنتجه الثورات للأسف الشديد، ولا مجال سوى لتسويات معقدة تبدأ بالاعتراف بالتغيير والتأثير المتبادل والمشاركة في الفرص والموارد، وصولا إلى عقد اجتماعي يجعل من الحريات موردا منظما للعلاقات والسلطات، ومصدرا للفهم والنظر في المسائل والتحديات، لكن التجارب والنوايا السيئة التي أحاطت بكل المحاولات والتسويات السابقة تظل تدفع بالصراع والجدل نحو الهاوية!
كان تديين الصراع يمنح السلطات قدرة على الهيمنة ويحرم الإصلاحيين من فرص توظيف اللحظة لأجل تغيير العلاقات المحركة للفرص وتوزيعها في المجتمع والدولة، ففي ظل هذه الحروب الدينية تهيمن القلة الاحتكارية على ادارة البلاد ومواردها، وتمنحها المؤسسة الدينية فرصة الادارة للموارد بعيدا عن قواعدها الأساسية. لكن اللعبة تغيرت وصار تديين الصراع يعمل لصالح المتمردين والمهمشين والمعارضين.
لا تريد النخب الاعتراف بأن الأزمة الحقيقية مردها الى الهيمنة والاحتكار والامتيازات وتفضل بدلا من ذلك أن تشغل الناس بصراعات دينية ومذهبية وطائفية. لكن الفئات المهمشة والمحرومة وجدت أنها لن تخسر شيئا طالما انها خسرت كل شيء تقريبا، وتخوض هذه الحرب اليائسة متحالفة مع المتشددين الدينيين الذين هم ايضا يمضون في طريق واحد لا خيار فيه سوى الموت. وحتى تأتي اللحظة التي تحتكم فيها الدول والمجتمعات الى العدالة الاجتماعية وعدالة التوزيع فإنها ستجد انها خسرت كثيرا بلا فائدة ولا معنى.
لكن يبدو إن الإيرانيين يغيرون المعادلة مرة أخرى، فكما انتزعوا الدين من السلطة وجعلوه إلى جانب المهمشين، يبدو أنهم يريدون اليوم أن يجعلوه محايدا ليس بيد أحد، وكان آية الله حسين علي منتظري يعتقد أن هذا هو هدف الثورة عندما نجحت في عام 1979 وكان يظن أن موقعه المتقدم في قيادة الثورة يمكنه من تحدي النظام الديني، لكنه مضى في تفكيك السلطة الدينية السياسية/ولاية الفقيه أبعد مما يعززه؛ أو إلى الحد الذي يضر بها، فعزل ووضع تحت الإقامة الجبرية، عزله الناس الذين يريد أن يحررهم من الهيمنة لكنهم يريدون أن يروه معصوما أو شبه معصوم. عصمة الإمام وولاية الفقيه وسلطة الفتوى والتحريم والدور الديني للدولة ومعاقبة العصاة والمرتدين هي صناعة مؤسسية للسلطة ولا يستطيع نقضها او الإضرار بها حتى الإمام المعصوم نفسه و/ أو الولي الفقيه؛ كما المفتي وقاضي القضاة، ويطبقها الحاكم بالتزام عميق حتى لو لم يكن مؤمنا بها و/أو لا يفهم الدين ولا يطبق منه شيئا، .. ويتسلى اليوم مثقفون بشتم الجماعات الدينية متوهمين أن استبعادها ينهي الدولة الدينية، الجماعات ليست بريئة بالطبع ولكنها شريك صغير ليست اكثر من شراكة بائعي الموبايلات في عالم الاتصالات وصناعتها وتجارته وخدماتها.
لقد غير الإيرانيون المنطقة والعالم أيضا منذ عام 1979 وربما كان "الربيع العربي" في العام 2011 من متواليات الثورة الإيرانية، وها هو "الربيع" يستأنف في إيران كما بدأ قبل أربعين عاما، .. كانت الثورة استحضارا للدين في الصراع وتبدو الثورة اليوم لأجل الاستقلال بين الدين والسلطة، وكان الدين على مدى التاريخ موردا سلطويا، ثم انتزعه الثوار والمهمشون والمستضعفون لمواجهة السطات والمتسلطين، ثم تحول اليوم إلى جوهرة ساخنة جدا لا يستطيع احد الاحتفاظ بها ولا يريد أحد أن يتخلى عنها.
الغد 2018-01-06