زوربا العماني و«أبناء القلعة»
أتابع مسلسل “أبناء القلعة” التلفزيوني بشغف، لا لأنّه يشدّني بتفاصيله، ولكن لأنّه يحمل اسم “أبناء القلعة”، الرواية العمّانية الوحيدة بامتياز حتى الآن، ولأنّ كاتبها هو صديقي الراحل زياد قاسم الذي عشنا في سنوات حياته الأخيرة تفاصيل قاع المدينة معاً، وأيضاً لأنّني كنت في صورة انتاج المسلسل من مخرجه ومنتجه ومنجزه الفنان الكبير إياد الخزوز.
ومن المبكّر الحديث عن “المسلسل” فنياً، وما اذا كان ارتقى للرواية العظيمة، ولكنّني أقول الآن إنّ هناك أعمالاً فنيّة تقتل روايات، وإنّ هناك أعمالاً فنية ترتقي بالروايات، ودليلي أنّ الروائي الاشهر غابرييل غارثيا ماركير ظلّ يرفض بيع حقوق انتاج روايته “مائة عام من العزلة” للسينما.
أنا، إذن، لا أتحدث الآن عن المسلسل الذي أتمنى له النجاح والرقيّ إلى أذواق المشاهدين العمّانيين وغيرهم، بل أكتب عن زياد قاسم. ويتّصل بي صديقي الفنّان غسّان مفاضلة ذات يوم، ويلقّف الخلوي لزياد قاسم فنتّفق على موعد سهرة في مطعم «الأوبرج» العمّاني العتيق، بعد أيام، لمتابعة مشروع مشترك، فيسمع كلامي الدكتور ممدوح العبادي، ليخطف الهاتف، ويستغرق في مكالمة حميمة مع زياد، فأبو صالح هو الذي قدّم زياد للقارئ الأردني، وصاحبنا لم يترك مناسبة إلا ويسجّل للعبادي فضله.
وبعد أيام، أعرف عن الجلطة المباغتة، ويمرّ يوم آخر ليتّصل بي غسّان، ويبلغني بأنّ زياد يعيش على الأجهزة، فأكتب مقالة أنهيتها بـ: لو فعلتها يا زياد سأقتلك. كنتُ قد كتبت نفس الجملة لمؤنس الرزاز، لكنّه فعلها، ولهذا تطيّرت، ولم أنشر المقالة.
وفعلها صديقي زياد، أيضاً، فباغته الرحيل في وقت ظننته فيه يتشبّث بالحياة، أكثر فأكثر. قبلها بأسبوعين كنّا في «الأوبرج»، وكان هناك فنّان شعبي عراقي يطلق آهاته الحزينة، مرافقة بنغمات أوتار عود شجيّة، لأفاجأ بزياد يتحوّل إلى زوربا العمّاني، فيقف ويترنّم مع المغنّي، وتتراقص يداه بتجلّ، ويطلق الآهات على الكلمات العراقية المتعَبة، وبدا وكأنّه يستقبل حياة جديدة، ولا يودّع هذه التي حفلت معه بالصخب مرّة، وبالصمت مرات.
زياد مات. ولو تحدّثت شخوصه الروائية لقالت الكثير عنه، وعن عشقه لعمّان، وولهه بالعمّانيين، وحتى آخر أيامه ظلّ يبحث عن كنوزهم المخبأة، من قصص الشركس والسيل، إلى الشوام والسلطيين والطفايلة والنوابلسة واليافاوية والكركية وكلّ من جاء إلى مدينة زياد، القلعة التي كانت مسقط رأسه وقلبه، فعشقها وعشقته، وكما لكلّ قصّة عشق من تناقضات وتباينات، وصدّ وقرب، ولقاء وفراق، كانت قصّته معها.
فعلها زياد، كما فعلها مؤنس، وكما سنفعلها جميعاً، وستفقد عمّان الكثير من عشّاقها، ولكنّها ستظلّ تجدّدهم كما تفعل فينوس/ الزهرة في ليالي العشّق والعشاق، فيحتجبون هم، ولا تحتجب هي أبداً، فالليل لا يكتمل إلاّ بها، والحبّ لا يكتمل إلاّ بعمان. وأنهي الكتابة، لأبدأ إعادة قراءة «أبناء القلعة» للمرّة الألف.
السبيل 2018-01-14