شباب 54 - 18
قابلتُ في العام 2001، لأغراض بحثٍ علمي قائداً فلسطينياً، أخبرني عن وقوفه في العام 1954، في جامعة القاهرة، في حضرة الحاج أمين الحسيني، قائد فلسطين في سنوات الربع الثاني من ذلك القرن، قائلاً إنّه آن الأوان لتسلم قيادة شابة من الشعب زمام الأمور. صار بعد هذا بسنوات من "القيادة" العليا، وما يزال.
يروي خالد هباش، قصّة كتبتها سابقاً (مرتين) نقلاً عن زملاء صحافيين قابلوه ونشروها. وخالد هو عازف يرغول وشبّابة، في فرقة العاشقين، الفلسطينية الأسطورية. يروي كيف اشتد حنين والده لعزف اليرغول، ولكن هواء صدره المتعب، ضعيف، لا يكفيه للعزف. أمسك خالد الآلة ووضعها في فمه، وأسند ظهره لوالده الذي مد أصابعه، يحركها على ثقوب الآلة. وعند توقف خالد، لم يكن دمع الأب المتساقط على رأسه توقف، ولامَ الأبُ ابنه، لماذا توقفت؟ بالكاد رأيتُ نفسي مع عمك في الحقل! عاد بأصابعه وأنفاس ابنه، إلى ذكريات حقول طبرية وشقيقه، قبل النكبة.
صادقتُ قبل عشرين عاماً طفلاً، وكنتُ شاباً. كانت كنيته، "أبو علي"؛ ونسيتُ مع السنوات اسمه الحقيقي، وبقيت في ذاكرتي، صورته، يقول ضاحكاً إنَّ حلم حياته أن يشتهر باسم "أبو علي عازف اليرغول البلدي". كان يجلس مع خالته اليافعة، واخته ذات الصوت الجميل، وشباب وأطفال العائلة، يحيطون بمجسّم قريتهم في صندوق زجاجي؛ حملناه لعرضه في الفحيص، وكانوا يشرحون للناس، ما سمعوه من أهاليهم: هنا كانت القرية، هنا النبع، وهنا الشجرة التي كانوا يجتمعون للسمر تحتها صيفاً، وهذه البيوت، وهذه..، والناس تقف، تنظر للصبية تتحدث وتُعيد القصة، وعندما ينتهي المعرض، يعزف أبو علي، وتغني سهى، ونغني، ويصفقون في النهاية لأنفسهم، كأنّهم تحت شجر السامر، في القرية.
تحدثتُ هذا الأسبوع مع مجموعة من مقاتلي الثورة الأوائل. لا يبدون مهتمين حقاً بالحديث، كما قد يظن البعض، فقط يُبدون لُطفهم لباحثٍ يسأل، يَصغرُهم فقط، بمسافة ثورةٍ أغلقت أبوابها مبكراً. يخبرونني عن سنوات التنظيم الأولى في الجامعة، في الستينيات، عن الخلايا الأولى، ومعسكر التدريب الأول، وأحياناً عن "الدورية" الأولى في الأرض المحتلة، عن التحقيق في زنازين العدو، عن لجنة التنظيم. يدهشونك، كم كانت الفكرة واضحة لديهم. يخبرونك عن "الكيانية" وعن "الوطنية" جامعة الشتات، وصانعة الوطن المعنوي في الطريق للوطن المادي.
قرأتُ كِتابةً لأكاديمي، هذا الأسبوع، تتحدث عن هذه الثورة، وكم ارتكبت من أخطاء، وكم هي "جاهلة". يصعب عدم رؤية كم أنّ هجوم هذا الأكاديمي بعيد عن الواقع. فالأخطاء لا تلغي الإنجاز، وبالنسبة لهؤلاء الثوّار الأوائل، المتقاعدين، يقول لسان حالهم "قدمنا لكم الكيانية".
تقول مناضلة، أشعر أحياناً إني أضعت خمسين عاماً من عُمري. ولكني بعد ذلك أعيد التفكير، ماذا لو عادت السنوات بي؟ فاكتشف أني سأفعل ذات الأمور ولن أغيّر فيها شيئاً. يؤرقها أمران، الأول، أنها لم تصل للنتيجة التي تريدها، وأنّ أبناءها، لا يسيرون على خطاها، تَعذُرُهم، وتقول لا بد أن لهم طريقتهم، فهم ليسوا أقل وطنية، وقد يصلون للطريقة الجديدة.
لماذا لم يصبح أبو علي فعلا "عازف اليرغول البلدي"؟ وبقي خالد وشقيقه محمد "شابين" في العاشقين، التي تُستحضر بين حين وآخر، وتبعث للحياة، كأنّها مثل الشاب في 1954، الذي أصبح من القادة منذ ذلك الزمن، ولا يزال؟ ولم يأت بعده من يتبعهما.
رائعون هؤلاء الرواد؛ وطنيون، بكل ما في الوطن من جمال، هم حُراس أمس والغد بذاكرتهم وعطائهم ونضالهم وثورتهم حينها، بكل أخطائها وضعفها وعبقريتها وقوتها، ولكن لماذا تفتت التنظيم؟ ولم تتجدد الأجيال؟ لم يعد خالد لحقل والده، ولكن أبو علي لم يخلف خالداً لإتمام الدرب.
لماذا ينتظر "شباب 1954" من يقول لهم، آن الأوان أن تتنحوا، ألم يصنعوا مجتمعاً ثوريّاً متجدداً؟.
لا بد من رؤية روعة الإنجاز، وتكريم من أنجزوا "الكينونة" بروحهم ودمائهم، مع محاولة فهم "أين الخطأ؟". وعلى بعض القادة الكبار، جعل مهمتهم الأولى، أن يكون بعدهم من يتبعهم، أن يلحق أبو علي بدرب العاشقين، مع خريطة طريق أوضح وأقصر، تتدارك أخطاء الماضي، وأن يسعى الشُبّان لذلك.
الغد 2018-01-26