أيديولوجيا الخبز
دخل رفع الدعم عن طحين الخبز حيز التنفيذ الفعلي اعتبارا من يوم أمس السبت، حيث وصلت نسب الارتفاع على المستهلك ما بين 60 - 100 % ورغم أن هذه الفاتورة الجديدة تشكل العبء الاكبر على ميزانية الاسرة الأردنية ربما منذ نحو عقدين، لكن هناك ما يشبه التفهم لدى طيف واسع من المجتمع بأن أسعار الخبز السابقة لم تكن ملائمة، وفي نفس الوقت تعيش هذه الفئات الواسعة حالة من عدم الرضا تنال إجراءات رفع الدعم ورفع ضريبة المبيعات التي جاءت متزامنة ما زاد من الشعور بعدم عدالة الاجراءات الاقتصادية.
فوق ذلك كله يشعر الناس بأن ثمة اشياء بديلة اخرى كان من المفترض أن يتم فعلها لم تفعل، وأن ثمة خيطا رفيعا يفصل بين قدرة ورغبة الناس في تحمل الظروف الصعبة والتكيف مع أي إجراءات اقتصادية جديدة وبين الشعور بالمس بالكرامة العامة للمجتمع؛ هذا الخيط الفاصل يرتبط بالعدالة ومدى شعور الناس بتحققها، وهذا ما يتطلب إصلاحات اقتصادية وتنموية حقيقية تشعر الناس بأن يد العدالة تعمل.
تعد أسعار الخبز خطا احمر في معظم مجتمعات جنوب العالم، وعادة ما تتجنب النظم السياسية الاقتراب منها؛ فالخبزعلاوة على كونه سلعة استراتيجية ترتبط بالاستهلاك اليومي لشعوب المنطقة ويعد أساس سلتها الغذائية يرتبط بالذاكرة الاجتماعية بالكرامة واستمرار الحياة فهو العيش، لذا طورت الذاكرة الشعبية خطابات كثيرة حول حرمته، ما قد يدفع الناس الى الثورة والاحتجاج اذا ما مس خبزهم؛ وعلى المستوى العربي ارتبطت الحركات الاحتجاجية الشعبية خلال نصف قرن مضى قبل الربيع العربي بالخبز كما حدث في مصر في انتفاضة الخبز عام 1977 التي سماها السادات ( ثورة الحرامية ) وانتفاضة الخبز في تونس عام 1984 وانتفاضات الخبز في الجزائر 1986 و1988.
ولكن، لماذا لجأت العديد من دول جنوب العالم الى سياسات دعم الخبز وبعض السلع الأخرى في الأصل، تعود الجذور التاريخية الى مصدرين يصبان في النهاية في فلسفة اقتصادية واحدة؛ أحدهما بقايا إرث الاقتصاد الاجتماعي والاشتراكية وسيطرة القطاع العام. والثاني القول إن سياسات الدعم هي آلية يسمح بها النظام الرأسمالي من أجل حماية الفقراء ومحدودي الدخل. وفي الحقيقة أن سياسات الدعم في الكثير من المجتمعات في جنوب العالم جاءت نتيجة اتباع نظرية التحديث الغربية منذ سبعينيات القرن الماضي والتي اهتمت بالنمو على حساب التنمية وأدت الى خسارة الكثير من المجتمعات للتقاليد الانتاجية مثل الزراعة وعلى رأسها زراعة القمح والذرة والقطن وغيرها من سلع استراتيجية كانت تشكل شبكات أمان تاريخية لهذه المجتمعات، وحينما فُقدت لجأت النظم السياسية بالتعاون مع المنظمات النقدية والاقتصادية الغربية الى سياسات الدعم ثم عمدت الاخيرة الى الضغط على الحكومات للتخلي عن هذه السياسات حيث يشكل الدعم على السلع والخدمات في الدول العربية نحو 6 % من الناتج الاجمالي.
في الأردن لم تشهد اسعار الخبز اي رفع حقيقي منذ 1996، والتي على أثرها حدثت احتجاجات واسعة في جنوب البلاد بدأت في الكرك أطلق عليها (انتفاضة الخبز).
تمر عملية الرفع الحالية بهدوء ولكن الناس بانتظار سياسات تشعرهم بالعدالة، ويدرك الاردنيون ان سياسة الدعم المباشر هي مسألة مؤقتة ولا تشكل اداة حقيقية للامان الاجتماعي، بل ان سياسات الدعم في مجملها لم تعد احدى تعبيرات العقد الاجتماعي ولم تعد اداة مجدية في استيعاب الصدمات والتكيف مع التحولات بل الاداة الحقيقية في حماية الفقراء والمجتمع بأكمله تتمثل في إصلاحات تنموية واقتصادية جدية تقوم على العدالة واستعادة الإنتاج والكفاءة.
الغد 2018-01-28