ليس بعيدا عن أحمد نصر جرار
كان عمره تسعة عشر عاماً، في العام 1967. وفي أغلب الأيام كان يشتري الحمص والفول، ويذهب للرابضين في كهوف في محيط نابلس. أدركت أمّه ما يفعل، وأنّه مع الفدائية الآتين من الخارج لتفجير ثورة. وفي ذات صباح سألته ماذا سيحمل من طعام؟ فقال ككل يوم. أخرجت نقوداً وقالت اشترِ دجاجا. أعدّت "الصينية"، ودَفَعَ قِرشاً في الفرن القريب، وذهب يحملها. عندما استقبله "أبو محمد" غضب، وقال هل أعددت الشيء ذاته للإخوة في مغارة بيت فوريك (قرب نابلس أيضاً)؟ وقال لا؛ هذا ما أعطتني إياه أمي، وهذا ما لدي، أصر أبو محمد أن يأكل كما كل يوم وكما يأكل الآخرون.
كنت أستمع لهذه التفاصيل هذا الأسبوع، في بيته في نابلس، وكان يقطع الحديث صوت الطائرات الحربية، وخَمّنا أنّها تطارد أحمد نصر جرار.
من أسباب وصف الثورة الفلسطينية، بأنّها "ثورة المستحيل" افتقار البلاد للاتساع والعمق الجغرافيين اللذين يوفران ملاذا آمناً للثوار في الجبال والغابات والكهوف، كما في بلدان أخرى شهدت حروب التحرير الشعبية، وحروب العصابات. ورغم ذلك لم تتوقف المحاولات يوماً.
من يتذكر أحمد جرار، الذي اغتاله الإسرائيليون هذا الأسبوع، لم ينسَ بعد مجموعة باسل الأعرج، فالفكرتان متشابهتان؛ صعود الشباب للجبال، والتحصّن. وإن كان باسل قد قتل في بيت في مدينة البيرة، حيث أقام متخفياً كزائر من أوروبا. ليس بالضرورة أنّ هذا الأسلوب سليم تماماً لوجستياً، أو أنّه أفضل الخطط والوسائل النضالية، ولكنه دليل جذوةٍ لا تنطفئ.
من يتذكر جرار، كانون الثاني (يناير) 2018، والأعرج آذار (مارس) 2017، لا يجب أن ينسى محمد عاصي، 22 تشرين الأول (أكتوبر) 2013، الذي اغتيل عندما كان يتحصن في كهف بين قريتي كفر نعمة وبلعين.
ويكفي النظر قليلا في سيرة بلعين وكفر نعمة، لاستخراج قصص أخرى عن المطاردين: أستاذ الرياضيات، من بلعين، الذي طورد العام 1974، وأفلت بعبور النهر حينها، ثم طورد في انتفاضة الأقصى. ثم قصة أبو خلدون (خالد الديك)، من كفر نعمة.
أستاذ الرياضيات عينه، بعد أن أفلت عبر النهر، بدأ بتنظيم العمل في الداخل. وفي حي وادي الحجر، في الزرقاء، في الأردن، كان الولد الصغير خلدون، يستقبل الأستاذ بالترحاب، وأعطاه اسماً، خطر له، هو "أبو سليمان". ولكن الأستاذ كان ضمن عملية ترتيب دخول خالد.
في كانون الثاني (يناير) 1981، في يوم جمعة عاصف بارد، دخل خالد، مع فدائيين آخرين. وكان يجب أن يعودا عبر النهر في ذات الليلة، ولكن النهر جُن اندفاعا. فعاد الفدائيان المرافقان؛ النمرود وأبو سليم بأعجوبة، أما خالد فحصر في الداخل، ووجد نفسه قرب قرية طمون، وكان يعرف عن وجود عضو خلية معهم، استقبلته، وعندما أحاط الجنود القرية أعطته ملابس نسائية، اخترق بها صفوف الجنود. لم يقم بعمليته الكبرى التي يعدها، فقط أصاب وطارد عملاء، وبعد عمليات معقدة استشهد، ليس بعيداً عن مكان استشهاد محمد عاصي.
قبل أسبوع من لقائي مطارد نابلس القديم، كنتُ أجلس مع فدائي قديم آخر، أخبرني عن رحلتهم عبر الجبال، متسللين؛ طلاب طب وهندسة من ألمانيا، في العام 1967، لصناعة ثورة. عندما أسروا في قرية بيت أمر، قرب الخليل وفي الأغوار، أحضر الاحتلال عالمة اجتماع، وشخصيات، تجالسهم، ليدرسوا لماذا يأتي هؤلاء الطلاب ويتركون المستقبل الواعد.
كان عُمْر أحمد نصر جرار، ستة أعوام يوم قصف بيت في طوباس، العام 2002، حيث كان يتحصن والده ومجموعته، التي انسحبت بناء على إلحاحه، وبقي يطلق النار، وهو مقعد، مبتور القدمين واليد، بسبب إصابات في مواجهات سابقة مع الاحتلال، واستشهد.
جذبته سيرة والده؟ تماماً كما درس الأعرج تجارب الآخرين. وربما أعجب والد أحمد، بسيرة قريبه المشهور باسم رشاد الكاسر، اللواء المهندس برهان جرار، الفدائي والقائد السابق، الذي توفي في جنين العام الفائت.
هي شبكةٌ، قصةٌ متسلسلة.
في سيرة أبو خلدون، سينشر الأستاذ قريبا كتاباً فيه كثير من النقد الذاتي، فليست كل هذه التجارب أفضل خطة استراتيجية ونضالية بالضرورة. ولكنها تعبر عن طاقات وبطولات مثالية يحتاجها من يستطيع نسج ثورة.
الغد 2018-02-09