"شارع طلال" الموؤود!
تشير الأرقام والمعطيات إلى أنّ هنالك نسبة مشاهدة عالية لمسلسل أبناء القلعة، الذي يبث يومياً على التلفزيون الأردني، ولم يكن أمراً مستبعداً، سواء ممن يتوافقون مع منظور المسلسل للأمور (وقبله الرواية التاريخية المهمة التي بني عليها)، أو من يختلفون معه، لكنّهم حريصون على المشاهدة، لما فيه من سردية اجتماعية وثقافية تاريخية أردنية.
مثل هذه المسلسلات تقع على درجة عالية من الأهمية في بناء ما يسمى "القوة الناعمة" للمجتمعات، فالفن أحد أهم الروافع للسرديات والصور الذهنية ولتطوير مفهوم الهوية الوطنية وتأطيره في اتجاهات تخدم الدولة والمجتمع على السواء، لذلك قد يكون في كثير من الأوقات أهم من كثير من الفعاليات والمؤتمرات والندوات أو الكتب، لأنّ تأثيره أكبر وأقوى وأعمق بخاصة في بناء "الخيال الوطني".
لذلك من الضروري ألا نتوقف عند مسلسل "أبناء القلعة"، وأن نعزز الإنتاج الفني الوطني المماثل، في بناء السردية، وكم آلمني أن يبقى نصّ مسلسل "شارع الملك طلال" حبيس الأدراج لفترة طويلة، بالرغم من أنّه يحكي سردية على درجة كبيرة من الأهمية السوسيولوجية والتاريخية، عن حياة الناس والتجارة في هذا الشارع، الذي يعدّ احد أطول وأعرق الشوارع في وسط العاصمة عمّان، وشهد – وكان شاهداً- على تحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية هائلة.
كاتب النصّ هو الزميل مصطفى صالح، رئيس تحرير الغد سابقاً، وهو مؤلف معروف في الدراما التلفزيونية له العديد من الأعمال، لكنّ ميزة العمل الذي من المفترض أن يظهر على جزأين، أنّه يتناول شهادات ومشاهدات وملاحظات وقراءة المؤلف نفسه للحياة الاجتماعية الأردنية من خلال شارع طلال، وهو – أي المؤلف- قد عاصر تلك المرحلة الطويلة، وعاينها، فهو من مواليد عمان في النصف الثاني من الأربعينيات، فيمكن أن يلتقط كثيراً من الملاحظات والأفكار والصور في نصّه والمسلسل الموؤود إلى الآن، لأنّ التلفزيون الأردني، وهو الجهة الوحيدة التي من الممكن أن تدعم مثل هذا العمل الوطني، غير مقتنع إلى الآن بضرورة دعمه وتمويله.
مثل هذه الأعمال تستحق الدعم المالي بدلاً من كثير من البرامج الفاشلة التي لا قيمة ولا تأثير لها، وهي أعمال من الصعب أن ينتجها في بداية الأمر أحد غير التلفزيون الأردني وبمساندة من وزارة الثقافة، وللتأكد على تجويد العمل والـquality المنتظرة، فيمكن الاتفاق منذ البداية على صيغة رقابة وتدقيق في مراحل العمل وكلفته، لكن الأهم توقيع عقد إنتاج مثل هذا المسلسل المهم من قبل المعنيين بالفن والثقافة والإعلام.
لا يبتعد كثيراً عمّا سبق الموقف من المركز العربي الذي قام بدور كبير (وسبق أن كتبنا عن ذلك مراراً) في إسناد الفن الأردني، بل في إحيائه، بعدما وصل إلى مرحلة الموت السريري بعد حرب الخليج الثانية 1991، فكان للمركز دور كبير في إنتاج العديد من الأعمال (منها سلطانة، الاجتياح، رأس غليص، وهنالك الآن أجزاء أخرى من هذه الملحمة الأسطورية التاريخية، وغيرها من أعمال اجتماعية وتاريخية وخيالية). لكن المركز ما يزال يواجه أعباء مرحلة يفترض أنّها انتهت في قضايا أخرى، وعلى المسؤولين في التلفزيون والإعلام والثقافة فصل الملفات عن بعضها، ومساعدة المركز على استعادة دوره الريادي في صحوة الفن الأردني، ودعم المسلسلات التي ينتجها، في الحدّ الأدنى أسوةً بالمسلسلات والأعمال الأخرى التي يشتريها التلفزيون، وهو دعم مزدوج أولاً للفن الأردني، وثانياً للفنان الأردني الذي يواجه صعوبات شديدة اقتصادياً. ما نأمله من وزيري الإعلام والثقافة والقائمين على الإذاعة والتلفزيون أن يأخذوا خطوات نوعية حقيقية في ردّ الاعتبار للفن الأردني والدراما ورفع حالة الفنان الأردني المظلوم.
الغد 2018-03-02