منديل إبراهيم الجميل!
"يحتاج الإنسان إلى العزلة والمراقبة والتأمل، ففي كثير من الأحيان تكون السلبية أفضل فلسفة يحمي بها الإنسان نفسه، أو تكون حالة وسطاً تعين على المسير الطويل.. إنها استراحة المحارب أو توقفه للنظر والبحث والتفكير، والمراجعة أيضاً، ففي كثير من الأحيان يصعب رؤية المشهد أو فهمه وربما يكون مستحيلاً إلاّ بالخروج منه.."
يعود الصديق العزيز الزميل إبراهيم غرايبة لتقديم وجبة جميلة من إنتاجه الفكري والأدبي، عبر كتابه الجديد "منديل أزرق جميل"، ويحوي مجموعة من القصص القصيرة والجميلة، بالإضافة إلى بعض الأفكار والنصوص على صيغة سرديات تجعلها أيضاً أقرب إلى الجانب القصصي.
سرديات الكتاب متنوعة، في ظاهرها، لكنّها في جوهرها، تعاين موضوعات محدّدة ودقيقة، مرتبطة بالمجتمع الأردني، وبالهموم الإنسانية، وهي أقرب إلى تشريح التناقضات السياسية والاجتماعية والثقافية. تضع هذه السرديات المرآة أمام القارئ ليعيد قراءة وتحليل المشهد بمنظور مختلف حقّاً، يسمح لنا بالغوص عميقاً لاستكشاف الحقائق بديلاً من الأوهام والحيل التي نحاول أن نستخدمها للهروب من هذه القراءة الشفّافة الصادقة.
سـألتُ أبا جهاد عن قصة "المنديل الأزرق الجميل" (التي جعلها عنواناً لكتابه): فاستشاظ غضباً وجعلني أشعر بأنّي ارتكبتُ خطيئة كبرى، مجيباً: يا أخي لا تكشف سرّ الكاتب ولا تُفسد نصّه! وبعد تفكير قليل وجدتُ أنّه محقّ فعلاً، فربط الكتاب بالمؤلف قد يظلم النصّ ويضيّق من أفق قراءته والإفادة منه، لأنّه نصّ مفتوح على قصص شبيهة عديدة على نمط حياة وثقافة وتفكير، وبالتالي إغلاقه على تجربة شخصية، مهما كانت مفيدة، قد يعطّل مكنات أخرى فيه.
مع ذلك، فإنّ هذا الكتاب يقرأ على الوجهين؛ الأول الذي يستدعي منهجية موت المؤلف، كما ذكرنا سابقاً، وهي منهجية عزل النص عن الكاتب، والآخر هو تجربة إبراهيم غرايبة الفكرية والوجدانية والثقافية الواسعة، التي كانت عاملاً من عوامل إنتاج هذا النص، مثل تجربته مع الكتابة الصحفية، رحلته مع الإخوان المسلمين، تحولاته الفكرية، منظوره للسياسات والمجتمع والثقافات والأديان، وكل ذلك صهره غرايبة عبر سرديات هضمت قضايا فكرية معقّدة بأسلوب سلس وممتع ومنوّع.
مزج غرايبة قصصه - بأسلوب أدبي وتحليلي فيه قدر من "الكوميديا السوداء"- بشخصية تطغى عليها وتتستر على شخصية المؤلف في هذا الكتاب، وهي شخصية "عيسو" (ولا أعرف لماذا حرّف اسم عيسى إلى عيسو؛ وخشيتُ أن أسأله حتى لا أحظى بتقريع آخر!)، التي ظهرت بصورة قوية وفاعلة في سردية "إلى المدرسة"، وفيها يتحدث عن أطفال القرية ومناهج التربية والتعليم وأساليب التعليم القديمة، والمدارس والفوارق الطبقية..الخ.
في قصة "آني والخوف أردنيان"، يعود فدعوس (الذي يتستر المؤلف خلف شخصيته، وكان هو الشخصية الرئيسة في كتاب سابق، ويمثّل المواطن الأردني المسالم الحذر في علاقته مع السلطة والآخرين) في تجربة الإخوان المسلمين، ورحلته الروحية والفكرية مع الجماعة، ومع التديّن والدين ومفاهيم العمل الاجتماعي والسياسي والإيمان والسياسات الرسمية في مكافحة التطرف والإرهاب، وقضايا التنمية التي شغل بها إبراهيم نفسه خلال مسيرته في الحياة.
الكتاب يكشفُ أسراراً جميلة من رحلات روحية وفكرية، أو دراما إنسانية شيّقة، وكما ذكر لي إبراهيم نفسه، فكان يمكن أن يتحوّل إلى رواية بقليل من المعالجة اللغوية والدرامية، وما يزال هذا المقترح مفتوحا في المستقبل، لكنّ وجوده عبر قالب قصصي- سردي لا يقلّل من أهميته، فلكل فنّ وأدب ميزاته وسماته الخاصة.