استرخاء تاريخي غير مسبوق
تُعبّر المجتمعات العربية هذه الايام عن حالة استرخاء تاريخي غير مسبوقة وسط متغير وحيد، المزيد من العنف والمزيد من العسكرة وصفقات التسلح؛ لقد عبرت هذه المجتمعات عن استجابة سطحية وغير أصيلة للحاجة الحقيقية للتغيير، على الرغم من قدرتها الجبارة على الثورة، إنما بدون الانعتاق؛ وكأننا أمام فرضيتين لتفسير ما حدث وما يحدث: الأولى، أن نداءات التغير والإصلاح هذه المرة جاءت مبكرة قبل أن تنضج هذه المجتمعات وتبلغ لحظة الرشد والاستعداد التاريخي للتغيير. وهذا الاحتمال سُوّق له كثيرا في السابق، لكن معظم المعطيات لا تتفق معه، وأبسطها شروط التغيير كما صاغتها تجارب مجتمعات أخرى خلال العقود القليلة الماضية. أما الاحتمال أو الفرضية الأخرى، وهي النقيض، فتتمثل في أن نداءات التغيير قد دقت أبواب هذه المجتمعات متأخرة عن مواعيدها ولحظاتها التاريخية، بعد أن أشبعت هذه المجتمعات تجريبا بها، وإمعانا في الفشل والتكرار.
قيل الكثير عن الأثمان المطلوب أن تُدفع من أجل الديمقراطية، لكن لم يقل إلا القليل عن فاكهة الديمقراطية الفاسدة؛ أو بعبارة أخرى: الفاكهة الفاسدة، وسط فاكهة الديمقراطية الطازجة. فإلى هذا الوقت، لا توجد لدينا ذخيرة معرفية في فهم حالة الاغتراب في مجتمعات ما بعد الثورات والتحولات العربية.
الاغتراب السياسي والثقافي هو نسيج معقد من علاقات محبطة ومذلة، تحبك تحت وطأة الشعور بالدونية والامتهان، وله بيئات جاذبة ينتشر ويزدهر فيها. حينها، يشعر المجتمع والأفراد أن الأوطان والمؤسسات التي ضحوا في سبيلها، وثاروا من أجلها، وبُنيت بعرق الأجيال وآلامها ومراراتها، قد أصبحت تسيطر على مصيرهم.
الشعور بحجم الضياع وعدم الجدوى ينتشر ويزدهر، حينما يشعر الفرد والمجتمع أن الموارد التي أوجدتها الطبيعة، وربما الأجيال السابقة، وحافظت عليها، تُهدر وتُستنزف وتتحول إلى نقمة ويلتهمها الفساد. هنا يشعر الفرد بأنه لا يُحرم فقط من حقه في هذه الموارد، بل ويمارس الخيانة بحق الأجيال المقبلة. ويتعاظم الاغتراب السياسي حينما يصل الفرد إلى قناعة بأن التغيير الذي انتظرته أجيال، يُسرق ويتحول إلى عبث لا مردود منه؛ وأن التضحيات في سبيل التغيير تتحول إلى موت مجاني من دون جدوى. فأزمة الاغتراب تقود إلى تزييف الحريات والحقوق. وفي الواقع، يُنتج المجتمع سلطاته ورموزه التي تحول البشر إلى أشياء بخسة، وفي لحظة من التأزم يرتدي المجتمع بأكمله أقنعة زائفة بحثاً عن هوية بديلة ومآل آخر.
تبدأ هذه الحالة وتنتعش، حينما يتسلسل الشعور في البداية بطيئاً بافتقاد الفرد حقه في الوطن. ثم يزدهر حينما يتصرف المسؤولون ورموز السلطات وكأن البلاد والأوطان امتداد لذواتهم. ثم يقود هذا الواقع إلى الانسحاب التدريجي الذي يأخذ عدة أشكال، أهمها اللامبالاة، وصولاً إلى رفض المشاركة والانكفاء على الذات، ثم الهرب ليس مشياً بل هرولة.
وتتجذر هذه الحالة حينما يحبط التغيير، ويذهب في اتجاهات لا تستهدف غاياته، ويتحول التجريب والتبديل إلى نوع من الشقاء الإنساني؛ فنجرب في التنمية والتغيير والتحديث والحداثة والإصلاح والإحياء، وندور في كل "المدارات الحزينة" في التاريخ، ونكتشف أننا لم نبدأ بعد.
إن أسرار حالة الاغتراب، والرغبة المكبوتة في الانسحاب التي تجتاح المجتمعات العربية، مصادرها الحقيقية تكمن في علاقات الداخل بالداخل، قبل علاقات الداخل بالخارج. فالعنف الذي يُصدّر اليوم للخارج، هو أحد أشكال التفريغ للعنف الذي يمارس منذ أجيال في الداخل في العلاقات المستبدة الظالمة، والمستندة إلى عدم الرغبة في الدخول نحو معترك التغيير الحقيقي، وعدم الجرأة على خيانة الأصنام؛ فهي نتيجة شبه منطقية لما لاقته هذه المجتمعات من إهمال وإحباط وقسوة وفشل .
الغد 2018-03-10