أيهما أفضل مرجعاً: الجريدة الورقية أم السوشال ميديا؟
يقول فارهاد مانجو في جريدة نيويورك تايمز في 17/3/2018 إنه أول ما عرف عن مذبحة المدرسة في ولاية فلوريدا كان من الساعة الرقمية التي يضعها على يده، وأنه بعد ذلك تعرض كغيره إلى سيل ضخم من الأنباء المتضاربة من "السوشال ميديا" (وسائل التواصل الاجتماعي) لم يكن معظمه سوى إدعاءات كاذبة، فقد ذكر بعضها أن القاتل يساري، وثانية أنه فوضوي، وثالثة أنه داعشي، ورابعة أنه واحد من مجموعة، وهكذا، قبل أن تتأكد أي منها من الحقيقة. وحتى السناتور بيري ساندرز وغيره من الليبراليين ذكروا أن هذه المذبحة المدرسية هي الثامنة عشرة من نوعها، وهو إدعاء غير صحيح.
في صباح اليوم التالي للمذبحة وضع صديق ثلاث جرائد على عتبة بيتي عرفت منها عن تفاصيل المذبحة وهوية القاتل، الذي لم يكن سوى تلميذ يتيم مأزوم مفصول من المدرسة.
وأضاف مانجو: بالاعتماد على المطبوعة صرت أقضي وقتاً أقصر مع الأخبار، وأكثر دراية. كما صارت الأخبار أكثر دقة. وعلى إثر هذا الفرق اشتركت في عدد من المطبوعات (ثلاث جرائد يومية ومجلتين) وباعتمادي لها مرجعاً أبطأتُ تدفق الأخبار السريع علي.
نعم، بَقيتْ عندي حاجة إلى المعرفة المبكرة للأخبار، لكنني صرت أركز على المصادر المطبوعة التي تهتم بالدقة والعمق لا على السرعة. وبهذه النقلة تغيرت حياتي، فقد كانت تلك الآلة العاجلة من الأخبار التي أحملها في جيبي (الهاتف الخلوي) تدور بي كالدولاب الجاهز دوماً لاقتحامي بأخبار طازجة ولكنها نصف مخبوزة. لقد اصبح الهاتف الخلوي والميديا بوجه عام أشبه ببرانويا مشرذمة للعالم.
لقد أصحبت الآن اقل قلقاً، وأقل إدماناً للأخبار العاجلة (Breaking News ) مع أنني صرت – على الرغم من بعض البقع العمياء – أفضل إنخبارياً.
لكم أشعر بالإحراج أو الخجل نحو الوقت الطويل الذي كنت أضيعه في السوشل ميديا، بعدما وفرت لي هذه النقلة من وقت تمكنت خلاله من قراءة نصف دزينة من الكتب (في شهرين) كما أصبحت زوجاً وأباً أفضل وأكثر من ذلك: لقد أدركت دوري كمستهلك للأخبار في بيئتنا الرقمية المهمشة، وأن رقمنة الأخبار تحطم الطبيعة الكلية للمعلومات، فالتكنولوجيا الرقمية تضعنا في غرف تردد الصدى والاستقطاب والتضليل المعلوماتي، وتطحن المجتمع فيقبل الدعاية والذكاء الاصطناعي اللذين يزيفان الصوت والصورة والنص. إنها تدخلنا – أي التكنولوجيا- في قاعة من المرايا التي يشبهها بعضنا بسفر الرؤيا، الذي يتحدث عن عودة المسيح الذي سيدمر العالم وينقذ 144 ألفا من سكانه ليعود بهم إلى السماء، أي صرنا نتطلع إلى الحكومة أو إلى الفيسبوك... لمعرفة الصحيح من الزائف.
ولكن أليس لك ولي دور نؤديه؟ لعل الاعتماد على الصحيفة المطبوعة هو الحل أو الدور. لكن يوجد للصحف المطبوعة سيئات: الصفحات كبيرة، والخط صغير، والحبر يوسخ اليدين كما أن الجريدة اقل أخباراً مقارنة بالميديا.
بَيّن أحد الاستبانات أن الناس دون سن الثلاثين يرون أن الصحيفة المطبوعة أقل أهمية من السوشل ميديا، ما جعل المرشحين في الانتخابات في أميركا يستغلون هذه الخاصية ليكسبوا أصواتهم.
إن حياة الناس اليومية بطيئة مقارنة بالتكنولوجيا الرقمية، فالأخبار تتدفق علينا بسرعة، وتتحدى قدرتنا على إدراكها وفهمها، مما يؤدي إلى ما يشبه المضاربة والتضليل المعلوماتي الذي يملأ الجو. ولكن نعمة الجريدة المطبوعة أنها تقدم لك الخبر في اليوم التالي وهو أكثر نضجاً مما يجعل إحساسنا بالوقت عادياً وأن العالم تحت السيطرة، لأنه قابل للفهم وليس مشوشاً أو غير مفهوم بالعناوين المتدفقة التي تملأ الشاشة. إذا وقع حدث كبير في العالم فسوف نعرف عنه. لماذا العجلة؟
وفي الختام يقول مانجو: عندما بدأت باعتماد الجريدة المطبوعة وجدت بعد بضعة أسابيع أنها ليست عظيمة للغاية، وإنما السوشل ميديا سيئة للغاية لأن الحوافز الخفية في تويتر والفيس بوك.. تكافئ السرعة على حساب العمق، والسخونة على حساب الحقائق، والدعاية على حساب التحليل".
ومع هذا فالناس في كل مكان مشغولون باللمس والكبس حتى وإن كانوا في عزاء أو لقاء أو يسوقون السيارة. كما صار كل شخص حراً في التعبير عن رأيه والتدخل في تعبير غيره، ولم يعد المرء يعرف هل هو أميّ أو نصف أميّ هذا الذي لا يجيد الكتابة والقراءة الذي ينتقده أم هو حامل درجة جامعية لا يختلف عنه فيهما؟