متدينون ..ولكن؟!
الدين حاجة انسانية وفطرية ايضا، لكن المهم في اطار فهمه وتطبيقه هو قدرتنا على تحويله الى (تدين) منتج وفاعل وحيوي، يتصالح على أساسه الانسان مع ذاته ومحيطه، وتبلغ من خلاله الانسانية اعلى مراتبها (الضميرية) وتتحرك قيمه في حياتنا لتصنع واقعاً جديداً.. ونماذج حية قابلة للتعميم، وانساناً جديراً بالحياة، وطاقة متجددة تنشر النور في كل مكان وزمان.
الاقرار بالحاجة للدين يفرز بالنتيجة (تديناً) ما، تختلف انماطه من شخص الى أخر - ثمة من يطلب الدين ويتعامل معه على أساس انه وسيلة لتحقيق السعادة والاطمئنان، فيمارس (تديناً) يفضي الى خلاص فردي محض لا علاقة له بالآخرين، وثمة من يطلب الدين على أساس انه (غاية) بحد ذاته، فيمارس (تديناً) قائماً على الانعزال من الدنيا واعتبار الآخرة هي دار العمل والجزاء معاً، وثمة من يفهم الدين ويمارس تديناً صحيحاً ومتوازناً وفاعلاً ايضاً.
تصاعد الطلب على الدين - ايضاً - يفضي الى نمطية من التدين: احدهما تدين منتج، يسعى الى اكتشاف الذات، وفهم مقاصد الدين وكلياته، واطلاق علاقة تجمع بين الذات والمقاصد، لانتاج ايمان فاعل يتحرك على الارض ويمجد العقل ويساهم في عمارة النفس والكون، وينهض بالفرد والمجتمع والعالم، ويسخر السنن والقوانين الالهية لتحرير رغبات الناس واراداتهم، وتحفيز طاقة التجديد والتغيير داخلهم، وتمكينهم من (استثمار) قيم الدين وتعاليمه في خدمة الانسان واعلاء شأنه.
أما النمط الآخر فهو تدين (استهلاكي)، يحاول من خلاله الفرد ان يملأ فراغه، ويلبي حاجاته الطارئة، ويسد جوعه الروحي، ويمكنه من الاحساس بالراحة، او (وهم) السعادة، وهو تدين غالباُ ما يكون صامتاً، او مختزلاً في طقوس معينة، لا يتحول الى ممارسات فاعلة، او حركة حقيقية في داخل النفس وخارجها، ولا يترجم الى افعال (منتجة)، لا علاقة له بمقاصد الدين وقيمه، ولا بقضايا المجتمع ومشكلاته، لأن نمط الاستهلاك هنا متعلق بالفردانية، والمظهرانية، وباختلاف الطلب عليه تبعاً للعروض الموجودة، او لصور (البذخ) المطلوبة، او لدوافع الشخص الذاتية واهدافه الخاصة، انه أشبه ما يكون - بالحاجات الضرورية لبقاء الانسان على قيد الحياة، كالطعام والشراب مثلا، يطلب (للاستهلاك) فقط وقد نفرط في استخدامه، او نسرف فيه، لكنه يبقى مستهلكاً ولا يتحول الى طاقة للتجديد الا في اطار الحاجة الميكانيكية الضرورية.
في عصرنا هذا، يبدو ان نمط التدين المنتج، هذا الذي نعول عليه في استثمار الطاقة الدينية لمزيد من العمل والوعي والحركة، ولتحرير الانسان من جهله وفقره وقيوده، ولصناعة النهضة والحضارة والتقدم، قد انسحب - للاسف - لمصلحة التدين الاستهلاكي: تدين الطقوس المعزولة عن مقاصد الدين، او تدين الذات المعزولة عن مجتمعها، او تدين (الوجبات) السريعة والجاهزة، او تدين الحاجة الطارئة، وهذه في مجملها تختزل الحاجة للدين وطلبه في اطار ضيق، ومعيار مغشوش، واحساس زائف، وقد تختطف الدين بعيداً لتحقيق غايات غير مشروعة، او اغراض تسيء الى الدين ذاته.
الدستور 2018-03-16