نحن الأيتام الهرمون!
-1-
منذ أن فقدت أمي، أعني حين شعرت باليتم الحقيقي، تحولت إلى باحث عن الأمومة، حيثما وجدت: في الطبيعة، في رسومات الفنانين، وعناق أغصان الشجر لبعضها، وفي لهفات القطة على صغارها، وبحثت عن الأمومة في كل النساء اللواتي عرفتهن، وأدركت أن الأنثى تزداد أنوثة وفتنة، كلما زادت جرعة الأمومة في كيانيتها، وكلما قلت، تحولت إلى ذكر ولكن بلا رجولة!
كان لدي أم! أتمتم بها كثيرا، خاصة حين أفتقد تلك اليد الخشنة، التي كانت تحتضن جبيني المقطب، كلما شعرت برغبة حارقة في أن أكون طفلا، يرخي جدائل حزنه على صدر حنون!
في حياة الرجل عدة أمهات؛ الأولى أمه التي ولدته، والثانية شقيقته الكبرى التي تحنو عليه، والثالثة زوجته، التي تداوي جراحه، ويا لتعاسة الرجل الذي حُرم حنان هذا الثالوث المقدس!
كلما رضع الطفل ما يكفي من أمومة، زادت فرصته في أن يكون رجلا حقيقيا، مكتمل الرجولة، أما الرجال القساة، المضطربون، القلقون، الممزقون، غير المستقرين، فهم أولئك الذين لم تتح لهم الفرصة للقول بملء الفم: كان لدي أم!
تولد المرأة على فطرتها أما، أو قل مصنعا للحنان، وما يحدث فيما بعد، أن بيئتها إما تعد خطوط الإنتاج الكامنة فيها فتعمل بكامل طاقتها لإنتاج الحب والحنان، أو تدمرها كليا، او جزئيا، ومع ذلك، تبقى تشعر بالحنين، لممارسة أمومتها، حتى على قطة تقتنيها، او نبتة زينة تربيها في الظل!
يخيل لي أن الأمومة إكسير الحياة، وهي تدخل في مكونات كل مظاهرها، فالحاكم الذي يفتقر إلى عنصر الأمومة لا يمكن أن يحنو على شعبه، والمدير الذي يخلو قلبه من دفء الأمومة، لا يستطيع أن يحب رعيته فيقسو عليهم، ويمارس جبروته وخشونته، والأسرة التي غابت عنها الأمومة، أسرة مفككة بائسة، تنتج أبناء قُدّت قلوبهم من الصخر!
-2-
الحب الأول في حياتي – ولا أريد أن أقول إنه آخر حب من نوعه!- كان لتلك المرأة التي تركت وجهي على منديلها، على حد تعبير درويش، أمي كانت من أولئك العشاق الكبار، الذين نادرا ما جاءت كلمة حب على ألسنتهم، لكنهم كانوا ينثرونه حيثما حلوا، في شهقاتهم حينما كنا نتعثر، وهلعهم ليلا حينما يسمعون أنة أو توجعا منا، وفي لهفتهم حينما كنا نعود حليقي الرؤوس من المدرسة، وقد هدنا الجوع، وفي سهرهم الليالي الطويلة عند رؤوسنا حينما تهاجمنا الحمى، وكم كانت تهاجمنا لـ فرط العناية الصحية الفائقة، وفي تلك القبلة التي كانوا يطبعونها بحنان غامر على موطىء الألم حينما يصيبنا، فنشعر وكأن تلك القبلة، والهواء الناعم الذي ينفخونه علينا، الترياق الشافي، هؤلاء، العشاق الكبار، لم يكونوا يعرفون عيد الحب، وليس للحب عندهم يوم؛ لأن كل أيامهم حب، وعطاء لا ينتهي!
أشعر أحيانا، ان هذا النوع من الأمهات والآباء في طريقه إلى الانقراض، وأرجو أن أكون مخطئا، ربما لأننا نشعر أن أمهاتنا هن أجمل الأمهات، ولا مثيل لهن، وأن آباءنا هم الأكثر حنوا وحدبا وعطاء من جميع الآباء، ربما، وربما لأن أمهات وآباء اليوم يعبرون عن حبهم بطريقة مختلفة، فيها شيء من البخل والتقنين، ربما، ولكن ما هو مؤكد، أن الأم، مهما كانت درجة تعاطيها مع الحب، هي أجمل النساء، وأروعهن، ولهذا، ربما، نبحث في شخصيات بناتنا وزوجاتنا، عن الأمومة، لنستظل بها، باحثين عن سكينة طيّرها اليُتم، حتى ولو جاء على كبَر، ففقدان الأم حتى ولو كنا كهولا، هو تيتم من نوع ما، بل هو أكثر من ذلك!.
الدستور 2018-03-22