الثقافة لا تجمع أحيانا
مقولة "ما تفرقه السياسة تجمعه الثقافة" أو يوحده الحوار والفكر، ترددت بين المفكرين والمثقفين العرب والمسلمين في لقاءاتهم قديما وحديثا، ربما كنوع من العزاء والتسرية في ظل الخلافات السياسية المزمنة، أو ربما لإذابة الجليد بين هؤلاء ونظرائهم من الأشقاء من بلاد اخرى. ولكن بات من نافلة القول أن هذه العبارات ما عادت مستساغة للاستخدام في ذات السياق، فيبدو أن السياسة يمكنها إن فسدت أن تفسد الاقتصاد والثقافة والدين وسائر الجسد.
لم تزل الثقافة العربية والإسلامية تتخبط أمام الجديد من تحديات ثقافة العولمة والانفتاح العالمي وثورة المعلومات في عصر المعرفة، يحصل هذا ولم تزل قضايا العقود الماضية مثل الحرية والعدالة والمساواة على حالها في أحسن تقدير. وللأسف فإن الكثير من قادة الفكر والرأي لا يسعفون أمتهم في مواجهة هذا الظرف، بالالتزام بالوقوف الى جانب قيم المعرفة والعدل والحرية والتنمية وحل مشاكل المجتمع الحقيقية، ويفضلون العمل كموظفين لدى الأقدر على الدفع، ليصبح أكثر الانتاج الفكري العربي عبارة عن سلع أو خدمات تقدم باحترافية لمن لديه القدرة على الدفع.
ومن الظواهر ذات الصلة بالموضوع أن مراكز الفكر والدراسات العربية انتقل مركز الثقل والتأثير فيها الى الدول الغنية، والتي تمتلك مؤسسات قوية يمكنها التأثير وعلى نحو متزايد على معظم هذه المراكز، ويشمل ذلك أيضا قطاعا واسعا من المفكرين والكتاب والنقاد وقادة الرأي، الذين يجدون في المؤسسات الإعلامية ومراكز البحوث والشبكة العنكبوتية فضاءً ومنبراً لعرض منتجاتهم. وإن كان هذا التأثير ليس مستحدثا، ولكن حديثه أن هذه الدول -فضلا عن خلافاتها البينية- فإنها قد امتدت مصالحها واهتماماتها واشتباكاتها السياسية والأيديولوجية الى مدىً أبعد، بحيث أصبح الكاتب يعد الكلمات في تغريدته أو مقالته أو مقطع الفيديو الذي يسجله حتى يرضي هذه الجهة أو لا يغضب تلك، وهذه مصارع الفكر ومقاتل الثقافة.
ولا ينفرد المال وحده في التأثير السياسي الضاغط على الثقافة حتى إن كان باتجاه المزيد من الفرقة والشتات، فهذا شأن أكثر السياسيين في العالم العربي والعالم كله عندما يقدمون مصالح السياسة الآنية على أي عامل آخر، ولكن تبقى مراكز المال هي الأكثر أثرا ، وإلا فالكل في البازار. وأمر طبيعي في ظل الصراعات المستعرة الخارجية والبينية والأهلية العربية ذات الطبيعة المركبة -سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية ودينية- أن يشتد فيها الضغط على كل صاحب فكر أو منبر رأي لاستمالته هنا او هناك، وتتضخم المشكلة حين تتسع الاستجابة لهذه الدعوات، ما يؤدي الى غياب البوصلة الفكرية، ويؤدي بالمجتمع الى أن يصبح كياناً مشوّه الشخصية، مختل التوازن، وعديم القدرة على تحديد مرجعياته الفكرية وأولوياته الاجتماعية.
ان الدركات التي انحدرت إليها أحوال المجتمعات العربية والاسلامية توجب على المفكرين والعلماء والكتاب أن يتحملوا مسؤولياتهم في مقاومة نهج التفتيت في الفكر والثقافة العربية والاسلامية، وتغليب المصلحة الكلية للأمة على المصالح الضيقة والقصيرة والمنحرفة عن السياقات التاريخية، وعدم السير مع المشاريع والنزعات المذهبية أو القُطرية التي تدّعي بأن لكل شعب أو قبيلة ثقافتها الخاصة، واستخدام ما يتوفر من وسائل للاتصال في الترويج لخصوصية الدولة وإضعاف أواصر ترابطها مع غيرها من شعوب ودول عربية أخرى.
في ظل التحولات الاقليمية والدولية الهائلة، ربما يصعب على صاحب القلم أن يواجه كل ذلك ما لم تتوفر له أجواء مناسبة، ولكن أقل ما يمكن أن يؤديه من ابتلي بالتصدر للفكر والثقافة، اذا لم يستطع الإحسان أن يتجنب الإساءة.
الغد 2018-03-24