أيام كانت الأزمة الوطنية تناقش وطنياً
وقعت بين يدي مؤخراً مجموعتان من الأوراق من الأرشيف، تمثلان منهجا للتفكير والنقاش حول الأزمات الشاملة مورس قبل نصف قرن، وهما تغريان على المقارنة مع المناهج التي سادت مؤخراً.
الأولى عبارة عن بضع صفحات كتبها الرئيس الشهيد وصفي التل بعنوان: "خطة عمل"، وهي عبارة عن نص مكثف يغطي كل شؤون الدولة، كُتبت في منتصف العام 1971، وهي بالتالي تكون قد وضعت لمواجهة حالة أزمة وطنية، قد تكون الأصعب، أمنيا وسياسيا واقتصاديا، في التاريخ الأردني المعاصر.
ما يهمنا الآن، ليس المحتوى المباشر للخطة بقدر أهمية منهج التفكير في الأزمة؛ حيث يبدأ التل خطته بقائمة أسماء تضم أكثر من 50 شخصية من أصحاب الخبرة في ميادين مختلفة يأمل أن يسهموا في النقاش والتنفيذ، بعضهم يمكن أن يكون جزءا من تشكيل حكومي، وأغلبهم لديهم خبرات مطلوبة ومفيدة.
المفاجئ أن القائمة ضمت طيفاً واسعاً من أتباع المدارس الفكرية المختلفة بل والمتناقضة أحياناً، فضمت معارضين أشداء إلى جانب موالين أشداء، يقترح الاستفادة من خبراتهم في المجالات التي تخصصوا بها. ولنا أن نتصور معنى أن يقترح الرئيس التل في ذلك الوقت أسماء مثل: إبراهيم بكر ويحيى حمودة ومنيف الرزاز وسليمان الحديدي وإبراهيم الحباشنة وحمد الفرحان وبرهان الدجاني، إلى جانب أسماء مثل أحمد اللوزي وأحمد الطراونة وخليل السالم وعبدالوهاب الطراونة وغيرهم.
والمفاجئ أكثر هو تلك العبارة التي ختم بها كلامه عن الخبراء عندما كتب بمنتهى الاحترام عن "معين الخبرة الأساسي الذي يتمثل بعشرات وربما مئات الخبراء المغلوبين على أمرهم المتواجدين في كل أجهزة الدولة القانونية والإدارية والمالية والعسكرية والأمنية".
ولكن أيضاً تعالوا نتأمل منطق الخطة التي فهمت مهمتها على أنها تبدأ "من تربية الماعز في وادي رم وحتى تسليح وتنظيم الجيش!"، كما تقول حرفياً.
المجموعة الثانية من الأوراق، عبارة عن 33 مقابلة صحفية أجراها المرحوم فهد الفانك في العامين 1971-1972 مع 33 شخصية اقتصادية للحوار حول الأزمة والخروج منها. وقد نشرت كل تلك المقابلات في أول صفحة اقتصادية في الصحافة اليومية الأردنية، كان المرحوم قد بادر إليها في الزميلة "الدستور" حيث عمل في تلك الفترة.
الشخصيات التي حاورها تضم وزراء عاملين وأمناء وزارات، ولكنها تضم أيضاً رئيس الجامعة الأردنية (الوحيدة آنذاك) ورؤساء كليات التجارة والاقتصاد والزراعة، وبعض مديري البنك المركزي إلى جانب محافظ البنك، ومديري مؤسسة الإقراض الزراعي وبنك الإنماء الصناعي ودائرة الإحصاءات.. وغيرهم.
من الواضح أن كلا من هؤلاء كان يرى، أو كان مطلوبا منه أن يرى، أنه جزء من النقاش، ولم يمتنع أحد عن الإجابة بانتظار مسؤوله الأعلى، بل قدم كل منهم إجابته.
اليوم هل يفكر أحد بسؤال الأكاديميين في الكليات الجامعية التي صارت تعد بالعشرات ويعد أكاديميوها بالمئات؟ وهل يعتقد عميد كلية اقتصادية أو مالية بأنه مطالب بأن يكون له رأي؟ هل فكر أحد بأن على مديري الدوائر أن يسهموا في النقاش بشكل مستقل عن الوزراء والرئيس؟
يسود الآن منهج مركزية الرأي والنقاش، ويتخوف وزراء ومسؤولون من إبداء رأيهم، ولا يخطر ببال أكاديمي أن عليه مسؤولية الإسهام في الحوار. بل إن الحكومة عندما عقدت بعض الاجتماعات الجماعية قدمت ذلك باعتباره حدثا كبيرا، بينما هو قبل نصف قرن كان أمراً عادياً.
مقارنة محزنة، ولكنها ضرورية.
الاثنين - 2/4/2018 ، الغد