رسائل كاوتشوك غزة
في مشهد غير مسبوق، استطاع المقاومون الفلسطينيون في قطاع غزة، لفت انتباه العالم إلى شكل جديد من الابتكار في المقاومة، بعدما قاموا بإشعال النيران بعشرات الآلاف من إطارات السيارات قبالة شريط الاحتلال شرق قطاع غزة في مشهد رهيب من الدخان الذي أغلق الأفق، الى جانب ألواح زجاجية تم نصبها على السواتر الترابية لحجب الرؤية ومنع قوات الاحتلال من التقدم داخل القطاع.
بدأ الفلسطينيون "مسيرة العودة الكبرى"، التي تشمل تنظيم تظاهرات سلمية تتجه إلى الحدود مع إسرائيل، منذ ذكرى يوم الأرض في 31 آذار (مارس)، ومن المتوقع أن تستمر حتى منتصف أيار (مايو) من هذا العام، ذكرى إعلان دولة الكيان الإسرائيلي؛ في الجمعة الأولى قدم الفلسطينيون 16 شهيدا و1500 جريح، وفي الجمعة الثانية 10 شهداء، فيما صمد شعار (فلسطين تجمعنا) في جمع فصائل وقوى فلسطينية عديدة. ويناضل الفلسطينيون أن يستمر تدفق جمع المقاومة حتى تخلق حالة قد لا تشبه الانتفاضات السابقة، ولكنها حتما ستؤسس لأشكال مختلفة من المقاومة وتعيد فكرة استنزاف الاحتلال من جديد.
الابتكار بتطوير أشكال جديدة من المقاومة السلمية خيار جديد وربما الوحيد الباقي؛ فمجرد تتبع الجهود الجبارة التي بذلت في الوصول الى "جمعة الكاوتشوك" فهذه قصة يصغي لها العالم في هذا الوقت؛ فقد عمل آلاف من الشباب على نقل عشرات الآلاف من إطارات السيارات واستخدموا الوسائل كافة في نقلها حتى الدواب، بهدف استخدام هذه المواد لحجب الرؤية عن قناصة الاحتلال. وبالفعل تشكل ساتر من الدخان الكثيف والهائل فيما نصبت المرايا العاكسة لتوجيه أشعة الشمس لتنعكس على أعين القناصة. وفي الطرف الآخر استعد الإسرائيليون بحيلة أخرى؛ حيث نصبوا عشرات المراوح الضخمة لرد الدخان نحو غزة وتغيير اتجاه الرياح. إنها قصة تستحق أن تُعلم في الابتكار بالمقاومة السلمية.
وعلى الرغم من الدعاية المضادة التي مارستها إسرائيل في التباكي على الأضرار التي يمكن أن تلحقها حرائق الإطارات في البيئة، إلا أن هذا الشكل الجديد من المقاومة السلمية استطاع أن يوصل رسائل قوية للعالم، أبرزها أن إرادة الشعب الفلسطيني ما تزال قوية وأن تمسكهم بحق العودة لم يهتز، وربما هذه بداية الرد المبكر على الصفقات المشبوهة التي باتت تتردد في الفترة الأخيرة.
الفلسطينيون قادرون اليوم، أكثر من أي وقت مضى، على أن يعيدوا كتابة تاريخ الصراع والاحتلال من جديد وأن يعيدوا صياغة قناعات العالم من جديد أيضا، ولا يوجد أمامهم إلا المقاومة السلمية وشبه السلمية بعدما تأكد لهم تاريخيا أن موازين القوى غير قابلة للتعديل وعلى الأقل في المديين القريب والمتوسط، فلقد قامت إسرائيل على سردية تاريخية روجت لمظلومية من نوع آخر خلقت على مدى أكثر من سبعة عقود تعاطفا عالميا حولها هو في الحقيقة سر قوة هذا الكيان. وفي المقابل، غابت رواية الطرفين العربي والفلسطيني. اليوم نحن أمام موجة تعاطف عالمي غير مسبوقة مع الفلسطينيين يجب استثمارها وتحويلها الى برنامج عمل عالمي.
الاستراتيجية الإسرائيلية الواضحة في أحداث الجمعتين تقوم على تعظيم خسائر الفلسطينيين تحديدا في الأرواح والجرحى، وفي المقابل تتطلب أن تكون الاستراتيجية الفلسطينية المقابلة قائمة على مبادئ الصمود والمقاومة الشعبية؛ أي الاستنزاف طويل المدى، ولا يقصد الاستنزاف المادي على الأرض فقط، بل استنزاف تعاطف العالم مع إسرائيل واستنزاف صورة الاحتلال وإظهارها على حقيقتها.
الغد - الاحد 8/4/2018