زراعة الشجرة والتفيؤ بظلالها
نجحت الدولة حتى اليوم في الترويج لثقافة تقول إن الوقت ليس ملائما لبلورة حياة حزبية، وذلك لغياب الثقافة المجتمعية وللتدخلات المباشرة ضد الأحزاب من الدولة، ولذا فالأفضل الابتعاد في هذه المرحلة حتى يصبح الوقت ملائما. ولا تشرح هذه الثقافة كيف يتم ذلك من تلقاء نفسه بدون تقديم الجهد والتضحيات حتى يتم الإعداد لزمن يصبح فيه هذا الوقت "ملائما".
الحمد لله، ما يزال هناك من يأبى أن ينصهر في حالة الشقاء التي يعانيها وطنه العربي. ليس من السهل أن تكون حداثياً في الوطن العربي في زمن السلطوية والحقائق المطلقة والحزب الأوحد. وليس آمنا أن تطالب بالتعددية السياسية والثقافية. هناك من يؤمن باستحالة ذلك، فتصبح الاستكانة والمهادنة عنوان حياته. وهناك من يرفض أن يكون مهادنا أو مساوما في حلمه بوطن عربي حر حداثي تنويري، ومنهم من دفع حياته ثمن هذا الإيمان، ليس فقط لأنه طالب بالحرية بل بالحداثة أيضا، فالحداثة تعني التنوير والتعددية وأنظمة من الفصل والتوازن، وهذا ليس مرغوبا من قوى الوضع القائم التي لا تريد خسارة امتيازاتها التي حصلت عليها على حساب عامة الناس.
واحد ممن دفعوا حياتهم من أجل المطالبة بمستقبل أفضل هو سمير قصير؛ الكاتب اللبناني الفلسطيني الذي استشهد حين فجرت قوى الظلام سيارته لوقوفه ضد الظلم والاستعباد. وقد ذكرنا سمير في كتابه الأخير "تأملات في شقاء العرب"، بعصر النهضة؛ عصر اليقظة العربية الأولى في العصر الحديث في القرن التاسع عشر، عصر الرسامين والشعراء والموسيقيين، وعصر المطالبة بالاستقلال وحقوق المرأة وبالحريات كاملة، مستغربا ما حصل بعد ذلك ومتسائلا بمرارة "كيف يتم إسقاط حضارة حية من أجل الاستسلام لعقيدة الشقاء والموت، وكيف يختار المجتمع نبذ التجديد والإبداع والتعددية والتشبث بالخمول والشقاء والإقصائية؟". حذرنا سمير من مجتمع أصبح أسيرا لما أسميه "أيديولوجية الخمول"، إضافة لحركات متطرفة أدت لتقييد حرية الفكر ونشر الحجاب الفكري على المجتمع بأكمله.
ضمن هذه المعطيات، من حق المواطن العربي أن يسأل الى أين نحن سائرون؟ ألم يحن الوقت لأطر سياسية وفكرية جديدة تخرجنا من هذا الخمول، بل الانحدار اليومي، وتأخذنا لبر الأمان؟ لن يجري هذا بالاستسلام لمستقبل نحكم عليه بالمظلم من دون أن نعمل على الأرض لتطويره، فنضمن بذلك ظلاميته.
أجزم أن غالبية الناس تريد مجتمعات تعددية مسالمة متسامحة عادلة ومزدهرة. مثل هذه المجتمعات لا تتحقق بمجرد الحلم فيها ولا تتحقق أيضاً من دون كلفة.
مشروع أن نسأل اليوم إن كنا مستعدين لإصلاح سياسي حقيقي يؤدي الى التشاركية في السلطة وتطوير بيئة حاضنة جديدة لا تشعر فيها أي مجموعة سلمية بالتهميش ولا تتغول فيها سلطة على الأخرى أو على الناس، أم أننا نعتقد أنه ما يزال بالإمكان إطلاق الوعود ودغدغة العواطف من دون ترجمة ذلك على الأرض كخطوات ملموسة؟ العالم تغير وعالمنا تغير أكثر، وما نزال نريد معالجة تحديات اليوم بسياسات الأمس.
مشروع أن نسأل اليوم إن كنّا نمتلك مشروعا فكرياً حداثياً تنويرياً تعددياً لمجابهة أمثال داعش أو أصحاب الفكر الإقصائي على حد سواء، وهل نحن مستعدون لتطوير مثل هذا الفكر الحداثي أم أننا سنستسلم ونترك هذا الجهد لجيل مقبل كما نفعل وكما فعل العديد من آبائنا وأمهاتنا؟
لن يأتي هذا المجتمع الحداثي التنويري التعددي بالتمني، بل سيتطلب عملا متفانيا ومتواصلا على الأرض ولعقود من الزمن.
هل نحن مستعدون لزرع الشجرة حتى وإن لم نتفيأ بظلالها؟
الغد - الاربعاء 11/4/2018