حرية الصحافة: ابحثوا عن السبب
ذهبت التقارير الدولية كافة التي ترصد تطور حالة حرية الصحافة في العالم، الى أن الأوضاع تسير من السوء الى الأسوأ، فلا توجد فترة شهدت فيها حرية الصحافة منذ نهاية الحرب الباردة لحظات قاسية وسوداء مثلما نشهده اليوم؛ سواء في اتساع القائمة السوداء للدول الأكثر قمعا وعداء لحرية الصحافة وصولا الى ما تتعرض له حرية الإعلام من ضربات موجعة في العديد من الديمقراطيات العريقة تكاد تضرب الأسس الثقافية والفكرية والقانونية التي قامت عليها تلك الديمقراطيات.
لطالما كان السياسيون في طليعة من قاوم حرية التعبير، ولطالما حاولوا ادعاء احتكار الحقيقة؛ أليست معركة حرية التعبير والصحافة عبر التاريخ، ومنذ مطبعة جوتنبرغ، هي نضال ضد محاولة السياسيين اختطاف الحقيقة واحتكارها، اليوم يعود السياسيون الى عادتهم القديمة؛ حيث ذهبت معظم التقارير والدراسات التي رصدت أعداء حرية الصحافة في السنوات الأخيرة، الى مد أصابع الاتهام الى السياسيين، لكن كيف أخذت الديمقراطيات الجديدة والمتحولة وحتى بعض الديمقراطيات العريقة تنتج أعداء جددا لحرية الصحافة معظمهم ممن يقفون على رأس هرم السلطة.
الاتحاد الأوروبي أكثر الكيانات الديمقراطية عقلانية، وصف الوضع الراهن (حرية التعبير وحرية الصحافة مهددتان في جميع أنحاء العالم)، ومع هذا فقد تأثر العديد من دول الاتحاد بموجة الانحدار، أما الأوضاع في الولايات المتحدة فقد سجلت تراجعا بمعدل درجتين؛ أي إلى المرتبة 45، حسب تقرير مراسلون بلا حدود، وقد لا يشير هذا التقييم الى الحقيقة، فقد أحدث الرئيس دونالد ترامب وفريقه وعائلته خرابا كبيرا في البنى الديمقراطية ستظهر آثاره لاحقا، فكل يوم تزداد ضغوطات البيئة المعادية للصحافة الحرة والمستقلة، فرئيس أقوى دولة ديمقراطية في العالم لا يتوقف عن وصف الصحفيين الأحرار بأعداء الشعب، واتهام الإعلام المستقل بأنه مصنع لإنتاج الأكاذيب، هذا الواقع دفع العديد من السياسيين في الدول التي تنتمي للديمقراطيات الناشئة الى التمادي في العداء لحرية الصحافة، وعلى عكس ما ذهبت اليه وعود العولمة في التسعينيات، نجد الديمقراطيات والدول الشمولية على حد سواء تتيح المجال للسياسيين لتحويل أدوات تكنولوجيا الاتصال والإعلام من أدوات بأيدي الشعوب الى أدوات بأيدي السياسيين وفي الأغلب أدوات للتضليل.
في العالم العربي، من الواضح أن أحوال حرية الإعلام في أسوأ حالاتها، لقد كانت حرية التعبير بشكل عام مخنوقة في هذا الجزء من العالم ولم تكن بخير في يوم ما، ولكن على مدى ربع قرن مضى، شهدت حرية الإعلام لحظات انفراج وبؤر لتسلل النور هنا أو هناك، وفي سنوات التحولات والثورات العربية، تنفس الناس الصعداء على الأقل في اتساع مساحة التعبير، الحلم المتواضع تبخر تماما، لقد حوصرت معظم منابر التعبير المستقل، قبل سنوات كان المال السياسي العربي يتيح فرصة لنوع من التعددية وإن كانت زائفة، وحتى هذا الشكل انتهى بعد أن ازداد التركيز، فثمة احتكار للون واحد من المال، ولون واحد من الرسائل الإعلامية.
السياسة تأكل الديمقراطية في العالم، والسياسيون غير الديمقراطيين الذين تنتجهم ماكينة الديمقراطية يعبثون في محركاتها الرئيسية ويحاولون تعطيلها، فأليست حرية الصحافة هي المحاصرة اليوم، إن الديمقراطية في العالم في خطر.
الغد - السبت 5/5/2018