الاختبار الحقيقي
يستدعي البيان الصادر عن وزارة الأشغال بإيقاف عطاءات صيانة الطريق الصحراوي التي تتجاوز 50 مليون دينار سنويا، التوقف وقراءة التسريبات والمعلومات التي تداولها الناس في الأيام القليلة الماضية عن حجم الفساد في العطاءات الحكومية وأخذها على محمل الجد وأن لا تفسير لهذا الأمر إلا أنه تم بعلم المؤسسات وضمن توافقات ومن باب الترضيات وكسب الولاءات، وهذا يعني فهم الطريقة التي يتم فيها مأسسة الفساد.
البيان المقتضب لوزارة الأشغال يتحدث عن 15 عطاء تطرح سنويا، وتكتشف الوزارة اليوم أنه لا داعي لهذه العطاءات وأن مديريات الأشغال في المحافظات يمكنها القيام بهذه الأعمال، على الرغم من أن الذين يعرفون الطريق الصحراوي جيدا يعرفون حجم ما شهده الطريق من صيانة على مدى عشرة أعوام مضت لا يكاد يذكر.
الناس يتداولون معلومات في منتهى الحساسية وتطلب المزيد من المعلومات والمساءلة، ومن حق المجتمع الأردني أن يعرف ماذا جرى، فعلى سبيل المثال؛ عطاء تنظيف الخط الصحراوي الذي ينحصر في التخلص من إطارات السيارات على جوانب الطريق، ويصرف عليه سنويا مبلغ يتجاوز المليون دينار، إن هذا الملف سيكون اختبارا أوليا مهما لنوايا الحكومة الجديدة وجدية في معالجة واحد من أخطر الملفات الاقتصادية والخدمية والمجتمعية.
لقد بقي ملف الحد من الفساد الصغير والكبير مفتوحا في عهد حكومات ما بعد الحراك الشعبي للعام 2011، ولكن من دون معالجات جدية وفعلية، فيما اكتفت الحكومات السابقة بالترويج أن الفساد الكبير لا يعدو أكثر من حالة انطباعية، وتثبت الوقائع الجديدة أن الخراب أكبر من كل ما قيل.
لم تكن كل المعركة ضد الفساد نزيهة بالكامل. لكن بالرغم من تواضع النتائج في الكثير من الملفات التي فتحتها، إلا أن تلك المعركة وظفت أحيانا في تصفية الحسابات وفي صراع الإرادات داخل المؤسسات الرسمية وخارجها. بل أحيانا استُثمر حماس الناس والإعلام لاجتثاث الفساد وانتزاعه من جذوره، في افتعال ملفات فساد وهمية من أجل التغطية والتمويه، ما جعل الجهود الفعلية، أحيانا، بحاجة لأن تخوض معارك هنا وهناك.
المساءلة المجتمعية في ظل غياب الوضوح الرسمي تعد سلاحا خطيرا جدا، وعلى قدر أهمية هذه المساءلة ودورها في مواجهة ضعف نفاذ القانون على الجميع وفي ملء الفراغ الذي يحدثه تواضع أداء المؤسسات الرقابية أحيانا، فإن هذا السلاح يستثمر في إرباك المشهد وسط فوضى الإشاعات وتصفية الحسابات، ما قد يجعل المساءلة الشعبية أحيانا أداة للإفساد أيضا إذا غابت المعلومات وساد الغموض الرسمي.
اليوم، أمامنا تحد كبير في تطوير مرفق المعلومات العامة في مؤسسات الدولة من أجل جعل هذه المعلومات متاحة أمام المواطنين؛ باعتبار ذلك أحد الحقوق التي كفلتها القوانين، وباعتبار الوصول إلى المعلومات أساسا لا يمكن الاستغناء عنه من أجل إرساء قواعد النزاهة، لا يمكن أن نتصور نظاما وطنيا للنزاهة من دون معلومات متاحة للجميع، ولا يمكن تصور شفافية حقيقية تعكس المصالح الوطنية من دون معلومات عامة يسهل الحصول عليها.
المسألة التي لا تقبل التخمين تبدو في أن معركة الفساد وتبييض الصفحات لا يمكن أن تخاض بالتجزئة، ولا يمكن أن تأتي بنتائج سياسية واجتماعية إذا بقيت تقوم على الانتقائية؛ فالفعل الجاد الذي سيحرك الوعي العام ويستعيد الثقة بأن الدولة هي الضامنة للنزاهة والعدل، يتمثل في أن يصل لقناعة الناس أنه لا توجد خطوط حمراء في مكافحة الفاسدين، حتى وإن حرك ذلك زلزالا كبيرا.