من ضيّع في الأوهام عمره!!
يوم كنا اطفالا في قرانا في زمن بلا كهرباء وتلفزيون وستالايت وانترنت وحتى انتركم في المداخل، كان اكثر ما يجتذب بعضنا تجمع رجال امام دكان او على بيدر ومنهم سمعنا اولى الحكايات، ولأن الراديو الخشبي كان المصدر الوحيد للاخبار والغناء فقد كانوا يتحلقون حوله، ولا انسى ما سمعته من بعضهم عام 1956 في حرب السويس وكنا ايامها نلثغ باسماء فلسطين ومصر لكن رجلا واحدا كان يفضل الانزواء ويجسّد ما يسمى الانسان الطاعن في السن والخبرة والخيبة ايضا اجتذبنا صوته الشجي الذي يرشح منه الدمع، وكان يردد مقطعا من اغنية لمحمد عبد الوهاب هي انا من ضيّع في الاوهام عمره، ولم يكن من السهل على اطفال في مثل اعمارنا يومئذ ان يفهموا معنى تلك العبارة المفعمة بالشجن والندم، لكن مرور الايام والاعوام وما زخرت به حياتنا من اوهام وآلام جعلنا نفهم ما يعنيه ذلك الرجل، فمن ضيعوا في الاوهام واحيانا في الاحلام اعمارهم كثيرون في بلادنا، لأن العواصف كانت تهب دائما على غير ما تشتهي السفن سواء كانت من خشب او من ورق!
واذا صح ما نشر مؤخرا عن استكمال صفقة القرن او بمعنى ادق مذبحة القرن فان كل ما كتبناه كان على الماء او الرمل، وكل ما قرأناه كان اجترارا واشبه بإرضاع دمية من مطاط او قش بانتظار ان تكبر وتنمو.
لكن الدمية بقيت على حالها لاكثر من سبعين عاما، ولو مررت في قريتي بالقرب من قبر ذلك الرجل الطاعن في الالم والخيبة لسمعت الشجر من حوله يردد الصدى: انا من ضيّع في الاوهام عمره!!
والمرة الوحيدة التي التقيت فيها ذلك الرجل الذي مكث في ذاكرتي حتى النهاية احضر جرائد صادرة عام 1948 واخرى عام 1967 وما تغير فيها هو تقنية الطباعة، اما العناوين فهي واحدة وكذلك المقالات التي يتوسل اصحابها العالم كي ينصفهم!!!