عن كوشنير .. بعيدا عن السياسة
عندما يجتمع الجهل والغرور في رجل واحد، تصبح النتيجة مزيجاً من المأساة والملهاة ... أتحدث هنا عن جارد كوشنير، الذي بفعل مصاهرته لسيد البيت الأبيض، وبفعلها فقط، تولى زمام الملف الأخطر للصراع الأكثر تعقيداً في المنطقة، وأعني به الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، من دون أن يتوفر الرجل على أية مؤهلات وخبرات، تتيح له الإبحار في هذا البحر، متلاطم الأمواج، سوى أنه «زوج الست»، دع عنك ما يحيط به وعائلته من مناخات فضائحية، تفوح منها روائح الصفقات القذرة والرشوات والعمولات مع عواصم النفط وشركات الأعمال العملاقة.
لا يكتفي الرجل بالتماهي مع تيار اليمين الأكثر تطرفاً في إسرائيلياً، دينياً وقومياً، بل وينصب نفسه «مرشداً وواعظاً» للشعب الفلسطيني، إذ يسمح له جهله وغطرسته، بالاعتقاد أنه قادرٌ على مخاطبة الشعب الفلسطيني مباشرة، ومن دون المرور بقيادته، بل ومن فوق رأسها وخلف ظهرها، وفي مسعى تفوح منه أيضاً، روائح التأليب والتحريض المنتنة.
كيف تصور هذا الفتى الغر، أن الشعب الفلسطيني سيستمع لمواعظه ونصائحه، ومن الذي أقنعه بأنه إن فعل ذلك، فإنه سيضع الرئيس عباس والقيادة الفلسطينية في أضيق الزوايا ... من صوّر له، أن الجماهير الفلسطينية ستحتشد في الشوارع مطالبة قيادتها ورئيسها بالسير في دروب كوشنير، طالما أن الرجل لا يأتي للمنطقة، إلا محملاً بهدايا سانتا كلوز؟ ... من قال له أن أحداً من الفلسطينيين، نفر واحد منهم فقط، يكن له التقدير والاحترام، ويمكن أن يأخذ كلماته على محمل «النوايا الحسنة»... من «لعب برأسه» وأقنعه بفعل ما فعل؟
يستطيع كوشنير أن يكون في موقع التأثير والقرار في واشنطن، لسبب واحد وبسيط، أن في البيت الأبيض، رجل أعاد انتاج الإدارة الأمريكية على صورة وشاكلة الحكومات والإدارات في أسوأ دول العالم الثالث، قرب الموالين والأقرباء والأبناء والأنسباء، وأحال الحكم إلى ضرب من «الفاميلي بيزنيس»، وابتدع وظائف ومسميات وظيفية لا معنى له، وعندما حار المفسرون في معرفة كنهها، أضفى عليها طابع «العمل التطوعي غير المدفوع»، وإلا كيف يمكن تبرير سطوة ايفانكا وكوشنير، التي لا تقل عن أدوار ماتيس وبومبيو، إلا بكونهما الأقرب إلى أذني رئيس، تحركه حواسه وغرائزه كما يقول هو شخصياً، وليس عقله أو تفكير المؤسسة الجماعية.
ولا أدري كيف تطمئن مؤسسة صنع القرار لرجل تدور حوله شائعات كبرى، بأنه من سرب معلومات مصنفة «فائق السرية» لقادة دول أجنبية مدججين بالهدايا والأعطيات، فيمنع لفترة من الوصول خزانة أسرار البيت الأبيض، قبل أن يتيح له نفوذه، أو بالأحرى، نفوذ زوجته على أبيها، العودة إلى مكامن الأسرار من جديد.
كل شيء في هذه الإدارة يدعو للأسف والاستهجان، بل والاستقباح ... كل شيء في إدائها هابط، حتى شخوص موفديها ومؤهلاتهم ... عملية السلام تعاقب عليها رجالات من طراز هنري كيسينجر وجيمس بيكر وجون كيري، ومساعدين من أوزان ثقيلة، تنتهي ورقة خفيفة، يتلهى بها جارد كوشنير، ويعاونه اثنان من المستوطنين المتشددين والغلاة: جيسون جرينبلات وديفيد فريدمان... أية مآلات هذه؟
لست معنياً بما جاء به كوشنير وما عاد به من جولته الأخيرة، فالمكتوب يقرأ من عنوانه، والمكتوب مخطوط أصلاً باللغة العبرية، وفي مكتب بينيامين نتنياهو، ولا خير يرتجى منه، في حلّه وترحاله ... لكنني أعجب من رئيس للدولة الأعظم، يرى وحده أن ثمة تقدم على عملية السلام في الشرق الأوسط، اللهم إلا إذا كان يعني بذلك، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب أليها؟
وتؤسفني أكثر، هذه الحفاوة التي يستقبل بها بعض القادة العرب مبعوثا كهذا، وعدم المبادرة إلى إعلانه «شخصاً غير مرغوب فيه» على أراضي دولهم ... بل وإبدائهم الاستعداد لتسهيل مهمته، وتهافت بعضهم على استرضائه، وإمطاره بالأعطيات والهدايا وعقود «البيزنيس» ... يؤسفني أن الموقف الأقوى ضد ثلاثي الوساطة الأمريكية ( الترويكا إياها) قد صدر عن أضعف الحلقات في السلسلة العربية (السلطة التي لا سلطة) لها ...ويدفعني هذا المشهد المؤسف، لاستعادة القول الذائع بتصرف: «كما تكونوا يوفَد لكم».