"بلدك أولى بك"!
"بلدك أولى بك"، بهذه العبارة استطاع الشهيد وصفي التل إقناع الدكتور إسحق الفرحان -الذي رحل عن الحياة والأردن قبل أيام- بالبقاء في الأردن، والاشتراك في حكومته في العام 1971، وترك العرض المغري الذي جاءه للعمل في الخليج، بعدما استقال من قسم المناهج، الذي قام هو بتأسيسه في وزارة التربية والتعليم.
ينقل لنا هذه الرواية الصديق والزميل أحمد أبو خليل؛ الكاتب اليساري الذي يختلف مع الإخوان المسلمين في كثير من المواقف، لكنّه يلتزم بالموضوعية والمهنية في حديثه عن الراحل الكبير، الذي خسره الأردن تماماً، ويذكر أبو خليل كيف أسهم الفرحان وزملاؤه في التربية والتعليم، من بعثيين وقوميين وإسلاميين (مثل: ذوقان عبيدات، د. عبد اللطيف عربيات وغيرهما)، في عقود سابقة بإنجاز أكبر نهضة حقيقية في تاريخ الأردن، عندما وضعوا أنظمة ومناهج وأسسا إدارية جعلت من الإنسان الأردني ثروة وطنية حقيقية لمستواه التعليمي والعلمي.
يذكر الصديق والزميل ياسر أبو هلالة، كيف أنّ الفرحان كان أول من أدخل الكمبيوتر إلى الأردن، من خلال تأسيسه الجمعية العلمية الملكية في العام 1974، وهو أول مؤسسي قسم المناهج في التربية والتعليم، ورئيس الجامعة الأردنية، ومؤسس جامعة الزرقاء الأهلية، ومؤسس جمعية الدراسات الإسلامية، ومن أبرز مؤسسي حزب جبهة العمل الإسلامي في العام 1992.
قبل ذلك، كان من الأوائل في الثانوية العامة في الضفتين، ومن الأوائل على الجامعة الأميركية في بيروت، في تخصص الكيمياء، ومن الأوائل على جامعة كولومبيا في تخصص التربية والمناهج.
تخيلوا حجم الإنجاز الصامت الهادئ لهذا الرجل الرائد الذي لم يسبق جماعته فقط (الإخوان المسلمين، التي انتمى إليها منذ مرحلة مبكرة في حياته ثم أصبح أحد أهم منظّريها وقياداتها) في الفكر والإدراك والوعي بالعمل العام والتغيير، بل سبق النخب السياسية والمثقفة في إدراك أهمية العمل الأكاديمي وربطه بالتغيير المجتمعي وبأهمية المجتمع المدني.
ظُلم الفرحان كثيراً، لأنّه لم يقدّر حقّ قدره، مع أنّ عبارة التل "بلدك أولى بك" هي التي جعلته يبقى ويعمل في البلد، لكن المفارقة أنّه لم يكن يشكو في أيّ وقت من الأوقات من أيّ ظلم أو اضطهاد، ولم يكن يثرثر أو يتشدق بما أنجزه بالرغم من أنّه أنجز الكثير وقدّم الكثير، وكان حالة متقدّمة ريادية بامتياز في كثير من المجالات، ويكفي عطاؤه الكبير للتربية والتعليم والمناهج والأجيال المتتالية، مما نقل الأردن إلى أعلى المراتب في مستويات التعليم، قبل أن نتراجع في الأعوام الأخيرة!
لم يكن يفكّر الفرحان بـ"أخونة التعليم"؛ تلك التهمة الساذجة التي نسمعها من المثقفين اليوم، بل التزم مع الهنداوي ورفاقه بفلسفة التربية والتعليم التي تؤكد الانتماء الوطني والقومي والهوية الإسلامية، وكان سياق التعليم والدولة يذهب بهذا الاتجاه، لذلك من الظلم إسقاط أحكام لاحقة على ظروف سابقة وحيثيات مختلفة تماماً!
الحديث عن الفرحان طويل ومتداخل جداً، ويحتاج إلى نقاش فيه قدر من الوعي والحكمة والصفاء لنفكّر في سؤال جوهري: كيف نتعامل مع أولئك العظام -وطنياً-؟ لماذا خذلناهم مع أنّهم أعطوا الوطن الكثير؟!
الغد - الاحد 8/7/2018