الركود العظيم
في أكتوبر 1929، بدأت أكبر أزمة اقتصادية في الولايات المتحدة (الكساد الكبير) وامتدت آثارها لبقية العالم ودامت حتى العام 1933 عندما انتخب الرئيس الجديد من الحزب الديمقراطي بينامين روزفلت وطرح مشروع "العقد الجديد" في خطاب التنصيب وطبق بسرعة قياسية برامج وإجراءات قامت على فلسفة معينة هي تدخل الدولة بقوة لإنعاش الاقتصاد وتصويب المسار، بما في ذلك وضع البنوك وسوق المال، وفي الوقت نفسه التدخل بقوة في سوق العمل والإنفاق على التشغيل. وعارض اليمين الجمهوري الخطة بوصفها انحرافا نحو الاشتراكية، ولم يكن ذلك صحيحا، فقد كانت برامج مؤقتة ساعدت البنوك والصناعة والزراعة على الوقوف على قدميها، وفي الأثناء تمكين الأسر المعدمة والعاطلين عن العمل، وقد زاد عددهم على 15 مليونا بإنفاق الحكومة على مشاريع ضخمة، وكان روزفلت قد قال في حملته الدعائية إن التدخل كان من فوق وآن الأوان لكي يكون من تحت، أو كما سماه مع "جيش المشاة" في الاقتصاد الأميركي. في الزراعة وضع برنامجا لاستصلاح أراضي الخزينة للزراعة وتحريج المرتفعات أخذ إليه حوالي مليوني عامل في ما يشبه معسكرات العمل؛ حيث ينفق على العامل أكله ولباسه ومبيته ويحول لأسرته معظم الراتب. وفي المدن بدأ مشاريع إنشائية ضخمة؛ إسكانات ومرافق عامة وجسورا وطرقا امتصت حوالي 3 ملايين عامل، الى جانب مشاريع أخرى لدعم الصناعة والزراعة والمؤسسات التمويلية.
كنت قد عدت أقرأ عن "العقد الجديد" الذي طرحه الرئيس روزفلت على الأميركيين عقب الكساد الكبير بمناسبة الجدل الذي أثاره عندنا موضوع "العقد الاجتماعي الجديد" ولن أعود الى التباسات هذا التعبير وأكتفي بما كتبه الزميل د. محمد أبو رمان، فهو يمثلني تماما. لكن أريد أن أستحضر المقارنة في معالجة الأزمة الاقتصادية والركود الحالي لدينا؛ إذ يستمر الرهان على تحسن الظروف المحيطة أو المساعدات، بينما السياسات المالية تستمر بالرؤية المحافظة والتقليدية التي تديم الركود بل وتعمقه تماما كما حدث في حينه في الولايات المتحدة. وأوضح سلفا أننا نتحدث عن حالتين مختلفتين تماما، وبالنسبة للبنوك فلدينا نظام بنكي مستقر ومتماسك ولا يدخل في المضاربات بالأسهم والسندات والتوريق الشيء الذي بدأت به أزمة البنوك وسوق المال وأطلقت تفاعلا متسلسلا أطاح بالاقتصاد وسبب ركودا عظيما لسنوات. إنما الفكرة الرئيسية للمقارنة هي السلوك في زمن الأزمة بين التحفظ المالي للحفاظ على سعر الصرف والاستقرار النقدي الى جانب رفع الضرائب لتعويض نقص الواردات وفق برنامج صندوق النقد أم التجرؤ بالإنفاق على المشاريع الرأسمالية بسخاء وتخفيف الضرائب لتحريك السوق وإنعاش الاقتصاد وامتصاص البطالة؟!
الاعتراض البديهي على برنامج تدخل الدولة بالتوسع بالإنفاق الرأسمالي وخفض الضرائب (تحديدا ضريبة المبيعات على السلع الوطنية والخدمات) أن ذلك يفاقم المديونية التي وصلت الى الخطوط الحمراء، والمطلوب منا وقفها وتخفيضها وليس زيادتها. والردّ هو أن الإنفاق الجديد مخصص حصريا للإنفاق الرأسمالي والتشغيل الذي يعود بمردود اقتصادي طويل الأمد ويحقق الرواج ونمو الاقتصاد بما يؤدي لاحقا لزيادة واردات الموازنة والوفاء بأعباء المديونية، وفي الأثناء تجنب الكلفة الاجتماعية المؤلمة فقرا وبطالة وتدهورا ثقافيا وتعليميا. التقشف يجب أن يشمل الإنفاق الجاري والهدر على المتنفذين والتنفيع بالمحسوبيات، هنا يتوجب التقتير الشديد بمال الدولة مقابل السخاء القوي على العمل والإنتاج. وهذه واحدة من معاني التغيير لدور الدولة في المجتمع أو ما يسمى العقد الاجتماعي الجديد.
الغد - الاثنين 23/7/2018