صياغة الإجماع حول هدف وطني كبير
تقدم الحالة الأردنية أدلة متعددة على نموذج المجتمعات الانتقالية التي تعاني قسوة أزمات الانتقال والمرشحة بقوة للإخفاق في تجاوز أزمات التحديث؛ إذ لم تخلق إزاحة حقيقية في كفاءة الدولة وبالتالي في الطريقة التي يفكر فيها الناس حيال الدولة والأسواق والمجتمع، ولعل أبرز ملامح تلك الأزمات هشاشة قدرات المجتمع والأنساق السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية على صياغة هدف وطني كبير وصياغة إجماع حوله، هذه الحالة تعاني منها العديد من المجتمعات التي تشهد ظروفا مشابهة، والرهان دوما يذهب الى تقصير عمر مرحلة الانتقال وزيادة كفاءة الأداء العام حتى في ضوء أزمة الموارد ما يقود الى ازدهار الثقة العامة.
هناك الكثير من السمات والملامح اليومية التي تسهم بوضوح في حالة الانقسام نتيجة غياب الهدف المشترك، فالكل يعمل ضد الكل، وثمة صراعات نخبوية واجتماعية لا تنتهي محصلتها صفر على الجميع، إساءة استخدام جهاز الدولة من قبل مسؤولين لا يواجهون قيودا رسمية كافية ثم حالة الإفلات من العقاب وهشاشة القانون، كل ذلك يخلق عادة تقاليد وثقافة سياسية ومجتمعية تتعايش مع سوء الحكم بل وتبرره أحيانا.
في العديد من تجارب الدول الصاعدة في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، كان النجاح لا يرتبط بمسارات إصلاح تقليدية؛ ليس بانتخابات منتظمة ولا بوجود برلمان على أهمية الانتخابات والبرلمان، بل بخلق هدف كبير مشترك تدور حوله عملية الانتقال ولا يكفي هذا الهدف بدون توافق وطني حوله، ووجود قيادة وطنية يوثق بها وقادرة على بث كيمياء جديدة في الحياة العامة؛ أي إدراك أن كل تغيير أو انتقال سياسي يعتمد على أفعال وأحداث يقوم بها القادة الوطنيون. تعمل اللحظات التاريخية على توفير فرص للقادة لاتخاذ إجراءات تشير إلى نوايا جديدة؛ أي إعادة تشكيل توقعات المواطنين، وبناء الثقة العامة.
إعادة بناء توقعات جديدة يوثق بها بوجود فرصة لبناء كفاءة الدولة ترتبط بالدرس الذي نتعلمه اليوم وهو أن علينا العودة إلى المتطلبات السابقة، وعلى رأسها وجود نظم اتصال وإعلام مهنية، قادرة على تغذية النقاش العام، وقادرة على إدارة الحوارات وحماية التعددية وخلق التوافق العام في اللحظات التي تحتاج إلى الحسم.
من دون ذلك، تبقى الديمقراطية الافتراضية قوة هلامية غير موجودة على الأرض، لديها قدرة على الإيهام أكثر من الفعل، ولديها خيال ديمقراطي لا رصيد له على الأرض. فيما قد تأخذ هذه النسخة الافتراضية الناس -كما حدث في مجتمعات عربية- إلى هيمنة جماعات سياسية أو اجتماعية صغيرة وصارخة، لمجرد قوة نفوذها، تحول البحث عن العدالة إلى انتقام؛ وقد تأخذ مواجهة التطرف والغلو إلى تطرف وإقصاء على الجهة الأخرى أكثر مرارة، ومن البحث عن الوقائع والحقائق، إلى صناعة الفبركات والأكاذيب والفقاعات الإعلامية.
يجب بناء هذه الثقة من خلال التوفيق بين ما يقوله القادة، وكيف يتصرفون هم أنفسهم، وكيف تعمل المؤسسات العامة يوما بيوم. هذا الهدف المشترك ممكن فقط إذا كان المواطنون يشعرون بدرجة ما بالهوية المركزية-المشتركة والشاملة، ويعترفون بنطاق المكاسب المتبادلة الناتجة عن التفاهم حول الهدف المشترك كما هو الحال في بناء الضوابط والتوازنات؛ وهذا يفسر لماذا تفشل الانتخابات أحيانا في خلق برلمانات قوية ولماذا تبقى الأحزاب مجرد هياكل سياسية هشة لأن مسألة الهوية المركزية-الشاملة شرط أساسي لخلق التوافق على هدف وطني يقود الى مصالح مشتركة، أن الهوية المركزية-الشاملة تعني هوية الصالح العام ومع أنها مركزية؛ أي غير قابلة للتفتت، فهي قادرة على احترام الثقافات الفرعية واستيعابها.
الغد - الاحد 5/8/2018