الأطباء وإعادة ترتيب المشهد
على الرغم من أن الأجور التي يتلقاها الكثير من أطباء القطاع الخاص بالفعل تتجاوز لائحة التعرفة الجديدة التي أقرها مجلس النقباء مؤخرا، إلا أن لائحة الأجور الجديدة سوف تترك آثارا كارثية على الخدمات الصحية بشكل عام، وسوف تعطي لفئة كبيرة من الأطباء الضوء الأخضر لفرض المزيد من الرفع على أجورهم، ما سينال مصفوفة واسعة من الخدمات الصحية والطبية الأخرى مثل المختبرات الطبية والتحاليل والصناعات والخدمات المرتبطة بالرعاية الصحية في العديد من الاختصاصات، علاوة على ما سيتبع ذلك من سلوك شركات التأمين التي رفعت عقود الأطباء المتعاقد معهم بنسبة 25 % والتي ازدادت سطوتها على المرضى من دون أن يحاسبها أحد.
الأسف الكبير الذي ينتاب المرء لا ينحصر فقط في السلوك التجاري البحت لهذه الفئة المهمة من المجتمع، وهذا قد يجد من يبرره، فهم يتعاملون في نهاية اليوم بمعايير السوق الرأسمالي ويريدون أن يحققوا أعلى عائد، بل الأسف على سلوك المؤسسات المهنية والتنظيمية التي تقف على رأس هذا القطاع والجهات الرسمية التي مررت هذا الأمر؛ حيث كنا الى وقت قريب نرى أن النقابات تشكل صمام أمان للمجتمع، وبأنها نضجت لدرجة نعدها لسان حال الطبقة الوسطى وتعكس أخلاقها وتقود دورها في التغيير وفي التنوير وفوق ذلك في تحمل المسؤولية الوطنية في الظروف الصعبة.
لسان حال الناس اليوم يقول لقد ضُحك علينا في قصة الدوار الرابع؛ فالنقابات التي بدأت الحراك الاحتجاجي في رمضان الماضي دفاعا عن قوت الناس -كما قيل- وفي مواجهة قانون ضريبة غير عادل هي أول من اعتدى على جيوب المواطنين حينما ترفع كلف الخدمات الصحية أكثر من النصف في ظروف صعبة وقاسية يعيشها الناس، وبالتالي يجد أصحاب نظرية أن احتجاجات رمضان الماضي لم تخدم الا الفئات المتهربة من الضريبة أن نظريتهم في مكانها وأن الفئات التي أثريت على مدى سنوات طويلة تريد أن تستغل الدولة والمجتمع معا؛ فإذا كان هذا سلوك الأطباء ونقابتهم فكيف سيكون سلوك بقية طبقات السوق الأخرى؟
لا يوجد لدينا تقدير حقيقي لآثار هذا القرار، وبالتحديد على الطبقتين الفقيرة والوسطى، إذا ما علمنا أن مظلة التأمين الصحي ما تزال لا تغطي الجميع ولا توفر في أحيان كثيرة الحد الأدنى من الجودة، ما تجعل الكثير من المواطنين حينما يجد الجد لا يجدون قيمة لهذه التأمينات، سوف يقال إن هذه اللائحة سوف توفر إمكانية أوسع لمراقبة النقابة على سلوك الأطباء والمستشفيات الخاصة، وهو ما يثير السخرية؛ فالدولة بكل أجهزتها الرقابية لم تستطع أن تحصل حقوق الخزينة العامة من هذه الفئة كما يشاع. الجميع ينظر الى الصحة والتعليم الجامعي باعتبارهما من الخدمات الأساسية الحساسة التي علينا أن نتوقف طويلا قبل المس بكلفها علينا أن نقارن حجم ما شهدته كلف الخدمات الصحية من زيادة في آخر عقدين مقارنة بالتعليم الجامعي الرسمي.
كالعادة، سوف تخرج رموز القوى المحافظة جنبا الى جنب ثوريين وحماة العمق الاجتماعي ويسنون أسنانهم على الأطباء، على اعتبار أن ركوب هذه الموجة يسهم في غسيل الذمم وإعادة ترتيب المواقف. ثمة وعي مرتد أخذ يتشكل في هذا الوقت يعرف جيدا معنى الرعاية والرعوية والريع والعلاقات الزبونية وكيف تتشكل ومتى وكيف تتخفى ومتى تبرز، في الوقت نفسه يقدم هذا الوعي رواية جديدة حول من هم أطراف معادلة الريع الحقيقيون ومن هم الزبائن الفعليون.