الإصغاء للذات!
"إن التحليل النفسي ليس مجرّد علاج، بل هو وسيلة لفهم الذات؛ أي أنّه وسيلة للتحرر الذاتي، وسيلة في فن العيش،..، وأكبر قيمة للتحليل النفسي هي حقّاً توفير التغيّر الروحي للشخصية"، أريش فروم.
كتاب "فن الإصغاء" هو أحد أهم الكتب التي قدّمها عالم النفس المعروف، أريش فروم، وهو وإن كان عبارة عن محاضرات وحلقات بحثية نشرت بعد وفاته، إلاّ أنّه أصبح يمثّل اليوم مدخلاً رائعاً من مداخل فهم علم النفس، بلغة بسيطة سلسة، غير معقّدة، صدر قبل قرابة ربع قرن، وتُرجم إلى العربية قبل أعوام قليلة (دار الحوار منقذ الهاشمي).
لا أملّ من العودة إلى هذا الكتاب، وكتبٍ أخرى لفروم الذي يبسّط ثقافة علم النفس ويقدّمها في إطار من النظريات الإيجابية الممتعة، ويضعنا في صورة النظريات المتعددة في علم النفس، بخاصة النقاشات والخلافات التي يقدّمها دوماً في إطار حوار مستمر ومعمّق مع نظريات فرويد في علم النفس، الذي وإن اختلف فروم معه، في العديد من التحليلات والنتائج، فإنّه يقرّ بأهمية فرويد ودوره في تطوير علم النفس والوصول به إلى مرحلة علمية، وإن كان -فروم- ينتقد ما يسميه "الأرثوذكسية الفرويدية" لتلاميذ هذه المدرسة.
قيمة كتاب "فن الإصغاء" وأهميته أنّه يقدّم لنا وصفة إرشادية نفسية في كيفية فهم الإنسان لذاته والإصغاء إليها وللمجتمع من حوله، وقدرته على إدراك الاختلالات والصراعات الداخلية لديه، وفهم العوامل الإيجابية والسلبية العقلية، وغير العقلية، المؤثّرة في تكوينه وشخصيته وانفعالاته وعقده وتجاوبه مع الأحداث.
يقول فروم في هذا الكتاب الجميل "إن إصغاء المرء إلى نفسه شديد الصعوبة لأنّ هذا الفن يقتضي قدرة أخرى، نادرة في الإنسان الحديث، هي قدرة المرء على أن ينفرد بذاته، ونحن في الحقيقة قد أنشئنا على رهاب الانفراد، ونفضّل أتفه صحبة أو حتى أبغضها، وأكثر النشاطات خلواً من المعنى، على أن ننفرد بأنفسنا، ألأننا نعتقد أننا سنكون في صحبة بالغة السوء؟! أعتقد أنّ الخوف من أن نكون وحيدين مع أنفسنا هو إلى حد ما شعور بالارتباك، يقارب الرعب من رؤية شخص معروف وغريب في وقت واحد، فنخاف ونولّي الأدبار، فنُضيع بذلك فرصة الاستماع إلى ذواتنا، ونستمر في جهلنا لأنفسنا"!
هذه الجملة المفتاحية قد تلخّص أهداف الكتاب وفكرته الرئيسة، وتتمثّل بأهمية الإصغاء إلى الذات، بل وتعلّم فن الإصغاء، والكتاب وإن كان متخصصاً في التحليل النفسي، والعلاجات النفسية، التي ينشغل بها علماء النفس، فإنّه يعلّم القارئ كيف يفهم النفس البشرية والعواطف المتضاربة المتعلقة بها، بخاصة ما يسميه فروم غرائز وعواطف البقاء والحياة (البيوفيليا Bio philia) أو عاطفة الدمار والموت (النكروفيليا Necrophilia).
تناقش فصول الكتاب العديد من المواضيع المهمة المترابطة بينها أسباب العصاب، وتمييز فروم بين العصاب غير الخبيث والخبيث، ثم مفاهيم التحليل والعلاج النفسي ومراحل الطفولة المبكّرة، والصدمات النفسية، والمناهج العلاجية النفسية المتعددة، والعلاقة بين المحلِّل والمحلَّل نفسياً، وقراءات في الأحلام وقدرتها على تفسير الحالة النفسية، وما يسميه بـ"عصاب الطبع الحديث"..الخ.
الكتاب جميل وممتع، ويساعد كثيراً على توفير فرصة للقارئ، غير المتخصص بالضرورة بعلم النفس والتحليل النفسي، أن يدخل في عملية إصغاء داخلي وتأمل لفهم "الأنا" وإدراك جوانب الوعي واللاوعي لديه، المعلن والمكبوت في شخصية كلّ منّا.
الغد 31/8/2018