الصندوق المغلق علينا
تذهب العلاقات بين الحكومة وصندوق النقد الدولي الى المزيد من التوتر والتعقيد، في ضوء أخبار متتالية عن رفض الصندوق لمشروع قانون الضريبة الذي تعده الحكومة حاليا ولم تعلن تفاصيله رسميا، وتتمثل أبرز نقاط الاعتراض فيما يتعلق بالشرائح والإعفاءات، ومنها إبقاء الإعفاءات للأسرة الواحدة عند 18 ألف دينار، وتثبيت الإعفاءات للأفراد عند خمسة آلاف دينار والاستمرار في تحديد ضريبة على الصناعة عند
14 % فقط، وهو ما قد لا يتوافق مع هدف الصندوق ومنهجيته المعلنة بتوسيع قاعدة التكليف الضريبي، ويبدو أن قراءة الحكومة الحالية مختلفة في هذا الشأن وأخذت بعين الاعتبار القراءة الاجتماعية فيما يتعلق بالشرائح وحدود الإعفاءات، والقراءة الاقتصادية المعنية بتوفير بيئة ملائمة لبناء قاعدة وطنية للإنتاج والصناعة.
من الواضح، وحسب خبراء الاقتصاد، فإن الصندوق لم يكن متشددا مع الأردن في السابق كما هو اليوم وبهذه الحدة، وبطريقة الإملاءات التي يحاول من خلالها التدخل في تفاصيل السياسات الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يعد خروجا على مجال عمله وعلى سياساته المعلنة، صحيح أنه في الأغلب، لا يلمس هذا التشدد مع دول أخرى، ولكن تتبع علاقات الصندوق مع الدول التي تخضع لبرامجه يفيد أن الصندوق يلجأ للتشدد في ضوء القراءة السياسية وكفاءة البدائل المطروحة أكثر من القراءة الاقتصادية والمالية كما حدث مع تونس مؤخرا.
برنامج إصلاح اقتصادي وطني توافقي بات أمرا ضروريا ولم يعد ترفا إيديولوجيا، وهناك إمكانية واردة لفرص التوافق مع صندوق النقد الدولي حوله، فهذه المنظمات المالية والاقتصادية هي الأخرى لم تعد بعقلية الوصاية التقليدية ذاتها التي سادت في الثمانينيات والتسعينيات، فقد شهدت مراجعات جوهرية في آخر عقدين سمحت بهوامش واسعة للدولة الداخلة في برامجها الإصلاحية من تقديم وتنفيذ رؤيتها إلا حينما تصل الدول الى مرحلة من العجز أو أن تذهب نخبها الاقتصادية طواعية وتسلم أوراقها وملفاتها كاملة لخبراء الصندوق. بمعنى أن الأردن اليوم بأمس الحاجة لأن يمسك مصيره بيديه وأن تكون المبادرة له ويفكر لنفسه ويخرج من ذهنية صندوق التبرعات.
طبق الأردن برنامج إصلاح اقتصاديا ماليا ونقديا وإداريا طويلا في السابق امتد من العام 1989 إلى 2004، وفي الحقيقة خرج الاقتصاد الأردني أكثر تماسكا وسجل العديد من المؤشرات تقدما، ولكن لم يؤشر ذلك الى أن الاقتصاد قد تعافى بالفعل، بل استمرت التشوهات الهيكلية التقليدية، ما حدث لم يكن بفضل وصفات صندوق النقد الدولي، بل بفضل عوامل أخرى داخلية وإقليمية، ولعل أهمها زيادات تحويلات المغتربين الأردنيين، ثم حافظ الاقتصاد على معدلات نمو اقتصادي مرتفع ما بين العامين 2005 و2010 ليدخل في مرحلة انكماش جديد نلمس نتائجها الكارثية اليوم.
يسأل الناس لماذا نلاحق الصندوق على مدى كل هذه العقود، عادة تجيب الحكومات بالإجابات التقليدية حول العجز في المالية العامة، والحاجة الى خدمة الديون الخارجية، وبالتالي لضمان تدفق المزيد من الديون؛ أي أننا دخلنا حلقة مفرغة ودخلنا صندوقا آخر وأغلقناه، في المقابل ماذا يريد الصندوق؟ عادة ما يضع الصندوق اشتراطات وأغلبها تدور حول تحقيق مؤشرات مالية مثل معدلات النمو ولا شرعية له أن يتدخل بالصيغة والإجراءات التي تتخذ للوصول لتلك الأهداف، لكن حينما تعجز الدول عن تقديم رؤية مقنعة وحينما تتباطأ في تقديم البدائل يتدخل الصندوق بالتفاصيل، وعمليا على الدول المستهدفة أن تنبطح ليس لشروطه المالية والاقتصادية بل والسياسية والثقافية.