ثقافة الإحباط
كفي أن تبدأ يومك بقراءة عناوين الأخبار، في الصفحة الأولى من الصحيفة، حتى تشعر بحالة شديدة من الإحباط والقلق!
فيديو مدرسة الفيصلية، وفيديو جامعة آل البيت، وصور الاعتداء على مدرسة طالبات في الزرقاء، ومعدل البطالة الذي وصل إلى مستوى قياسي (18.7 %). من أي زاوية ننظر إلى ما سبق؟! هل هو فشل السياسات العامة، ونتائج أخطاء متراكمة، منذ أعوام طويلة، على صعيد التربية والتعليم، والاعتماد على التوظيف، والاعتبارات الجهوية والاجتماعية في التعامل مع الجامعات، وسياسات الاسترضاء والتنفيع والممالأة التي أدت إلى التنمّر على القانون والإدارة ونمو الهويات الفرعية والجهوية على حساب الاعتبارات الوطنية والمدنية، التي كانت أفضل حالاً لدينا قبل عقود، بمعنى أنّ مؤسسات الدولة نفسها تعرّضت لموجة من "التزييف"، وأصبحت ضحية لتلك السياسات!
كل ذلك صحيح، لكن نجم عنه أمر في غاية الخطورة، فلم يعد الأمر مرتبطاً فقط بقرارات وسياسات إدارية، أصبح ثقافة يومية وعامة، انتظار الوظيفة، العنف البنيوي في المجتمع في تعاملنا مع بعضنا بعضا، في المدارس والجامعات والأحياء، ومن ذلك التطرّف الديني وهو عنف رمزي، المحاصصة الاجتماعية والجهوية، استُدخلت هذه المفاهيم في الثقافة الاجتماعية، وأصبحت جزءاً منها، وبدت الثقافة المدنية والقانونية وكأنّها استثناء، وليست الأصل، حتى في قلب الجامعات، التي من المفترض أنّها منصّة قيم التنوير والحداثة والتطوير.
بالتوازي والتزامن مع الحديث عن الإصلاحات المطلوبة، مالياً وسياسياً واقتصادياً وإدارياً وتعليمياً، فلا يجوز أن يبقى الإصلاح الثقافي مسألة ثانوية ومهملة، تأتي في ذيل أولويات الدولة واهتماماتها، وكأنّها شأن مرتبط بأعمال الكتّاب والأدباء والفنانين، وهذا صحيح جزئياً، لكن مع ضرورة أن يُربط ذلك بالثقافة العامة والسياسية والوطنية واليومية، وأن تكون ضمن المهمة الثقافية للدولة والحكومات، وفي نصّ الشأن العام، لا على هامشه!
إصلاح السياسات مرتبط عضوياً بالعمل الثقافي، فمواجهة معدلات البطالة تتطلب ثقافة جديدة تقدّس قيم العمل والإنجاز وتردّ الاعتبار للعمل المهني والحرفي، بوصفه فنّاً محترماً ووسيلة من وسائل التنمية الاقتصادية وحلّ معضلة البطالة، فلا يمكن الاستمرار بتجاهل معادلة غريبة وعجيبة: أكثر من مليون عامل وافد مع معدلات بطالة تصل لدى الشباب في حدود الـ40 %، ولا يمكن انتظار الوظيفة الحكومية، وهي لم تعد تجدي حتى اقتصادياً، بالمناسبة، وعلى الشباب اليوم أن يحطّم الحواجز الثقافية والنفسية التي تحول دون ثقافة العمل أو تقلّل من شأن التعليم المهني.
الحال كذلك بالنسبة لثقافة احترام القانون وتغليب قيم الكفاءة والنزاهة على مفاهيم الولاءات الجهوية والسياسية والاجتماعية، وهي -أي ثقافة القانون- مرتبطة بمهمة تبدأ منذ الأعوام الصغيرة حتى الكبر، تتواصل في غرس هذه القيم لدى الأطفال.
مواجهة العنف البنيوي والتطرف الديني مرتبطة أيضاً بإعادة تعريف وتطوير مفهوم الهوية الوطنية الجامعة، الهوية المنفتحة على الحوار والآخر والتعددية والمدنية، وليست الهوية المنغلقة المرتبطة المقعّرة، فأحد أهم أركان المهمة الثقافية اليوم تطوير مفهوم الهوية الوطنية الجامعة، وتخليصه من المفاهيم الخاطئة والارتكاسية.
ثمّة تحولات اجتماعية وثقافية هائلة حدثت، وتزاوجت الأمراض الموروثة مع العولمة المهيمنة على ثقافة الجيل الجديد (جيل الآيفون)، وهذا وذاك يعزز من أهمية وضرورة المهمة الثقافية وبناء رسالة ثقافية حضارية للدولة، تبدأ من ثقافة الحياة اليومية في قيم التعامل مع بعضنا بعضا، وتمرّ عبر ثقافة الوظيفة العامة، وتصل إلى ثقافة المال العام والقانون وتحديد الحدود والواجبات لدى المواطنين وترسيم علاقتهم في الدولة.
فوق كل ذلك نحتاج إلى ثقافة إيجابية متفائلة في مواجهة ثقافة الإحباط والتشاؤم التي باتت تهيمن على المزاج العام.