لماذا كل هذا التشوه في الثقافة المجتمعية؟
صدقت فينا المقولة الشهيرة "نحن نحمى بسرعة ونبرد بسرعة"، كلما واجهنا ظاهرة رديئة من سلوك الأفراد والجماعات في مواجهة بعضهم بعضا أو في مواجهة المؤسسات والدولة، نقيم الدنيا فجأة ونقعدها في اليوم التالي، من دون البحث عميقا في خلفيات التشوهات الواسعة التي باتت تضرب في عمق ثقافة الناس؛ أي نمطهم في الحياة والسلوك وفي رؤيتهم لأنفسهم وللآخرين وفي الطريقة التي يتخذون فيها القرارات وفي الطريقة التي يشكلون فيها ردود الأفعال.
بدا وكأن المجتمع الأردني قد صدم نتيجة حادثة جامعة آل البيت وهي صادمة بالفعل، وكرر لعبة الصدمة مرة أخرى وهو يشاهد أطفالا يدمرون مدرستهم، ولم نتذكر أن هذه الحوادث قد تكررت وفي مشاهد أقسى خلال السنوات الخمس الماضية، ثم مرت بعد موجة من السخونة انتابتنا لأيام وكأن شيئا لم يحدث.
يبدو للوهلة الأولى أنه لا الدولة ولا النخب مسؤولتان مباشرة عن هذه التشوهات وعن الطريقة التي تُشكل فيها الجماعات والأفراد سلوكهما اليومي، ولكن في الحقيقة هما في صلب المسؤولية، فهناك ثلاثة مصادر أساسية مسؤولة عن كل هذا التشوه الذي لحق بالثقافة المجتمعية وبات ينعكس في السلوك العام؛ الأول: الإفلات من العقاب الذي يتمثل في هشاشة دور القانون والميل الى البحث عن الاستقرار الشكلي على حساب الأمن الاجتماعي الفعلي حينما يتم التعامل مع القانون بانتقائية وباسترخاء، والثاني: في هشاشة أدوات المساءلة المؤسسية، ما يدفع الأفراد والجماعات للتصرف من رؤوسهم. يبدو أبرز ملامح خسائر الثقافة المجتمعية التراجع الكبير في قدرة المجتمع على المساءلة العامة؛ أي قدرة الأفراد والأطر المؤسسية المجتمعية ووسائل الإعلام على مراقبة أداء المؤسسات والنخب، في الوقت الذي يزداد فيه الصراخ والأصوات المرتفعة التي تعبر عن لغة احتجاجية غير منظمة وغير واضحة المضامين يرافقها خطابات غير مقنعة ومملوءة بالمعلومات الخاطئة والأكاذيب التي يسهل نفيها؛ حيث تتوالى هذه الظواهر الكلامية والاحتجاجية على شكل فقاعات تتلاشى بسرعة، بمعنى أننا نخسر معركة المساءلة المجتمعية ونحن بأمس الحاجة إليها. الثالث: في تفشي مظاهر المحسوبية والواسطة وغياب معايير الكفاءة والاستحقاق ما يجعل من هب ودب يعتقد أنه صاحب حق، في هذا الوقت، تستثمر بعض الفئات ردود الأفعال الرسمية التي تميل الى منطق معالجة الأحداث بأدوات الاستقرار الهش؛ أي الاستماع الى أصحاب الصوت العالي وربما تمكينهم وتقويتهم.
السياسة المحلية تخضع لمعايير لعبة متداخلة ومعقدة أحيانا كثيرة، فيها أمزجة سياسية للنخب الفاعلة وأخرى لنخب متقاعدة، وقوى اجتماعية نافذة ومراكز قوى متنافسـة، وأوراق وملفات يلوح بها؛ مما يخضع رأس الحكومة الى طوفان هذه الضغوط والحسابات والبحث عن التوازنات والانتقال من الإدارة الاستراتيجية المعنية بالتوظيف الأمثل للموارد الى الإدارة اليومية أي إدارة الوضع الراهن، وهذا الواقع ينسحب بالتدريج على مختلف مستويات الإدارة ولدى معظم المؤسسات العامة بغض النظر عن استقلاليتها أو عدمه.
فرؤساء الجامعات، على سبيل المثال، فوق رؤوسهم هَم ضغوط المخاتير والوجهاء أكثر من هَم البحث العلمي وبناء جامعات معاصـرة، ومديرو المؤسسات العامة ترهقهم التوازنات وتطييب الخواطر أكثر من إرساء قواعد المؤسسية وإنجاز مهام دوائرهم بكفاءة، وقِس على ذلك مختلف مواقع العمل العام. وهو الواقع الذي يقودنا الى افتقاد المجتمع ومؤسساته لثقافة الجدارة والاستحقاق والمساءلة.
إن المجتمع الأردني تنطبق عليه خصائص "ثقافة العبور" التي تشهدها المجتمعات في مراحل التحول، وهي ثقافة غير صديقة للاستقرار، ومملوءة بالترقب والانتظار والحساسيات المتناقضة والميل الى العنف وهشاشة دور القانون، وإذا كانت الدولة تعد طرفا في معادلة إطالة عمر هذه الثقافة، فهي من دون شك المسؤول الأول والأخير عن تأمين خروج آمن منها.
الغد - السبت 8/9/2019